الاقتصاد الأمريكي هو الأول في عالم الدول المتقدمة ناتجه الإجمالي يزيد على 18 ترليون دولار عام 2015، وتجاوز نموه مجموعة اليورو. وتبيّن أنّه أكثر حيوية من اقتصاد اليابان الذي كان الثاني في الصناعة بعد الولايات المتحدة، قبل نهضة الصين، لكن اليابان تكاد تفقد القدرة على النمو الاقتصادي منذ منتصف التسعينات.
والاقتصاد الأمريكي معروف بريادته وقيادته للتحولات التكنولوجية الكبرى في العالم، والتقدم التقني والتنظيمي، في مختلف ميادين الإنتاج. كما إنّ قوة ذلك الاقتصاد من الروافد الرئيسية للتطور وازدهار الحياة البشرية، وفي نفس الوقت مكّنت من خوض حروب فتّاكة في طول الكرة الأرضية وعرضها، وكانت عوناً على كثير من الظلم والتجبّر والعدوان وقهر الضعفاء.
بيد أنّ لهذا الاقتصاد مشكلات لها علاقة بخصائص بنيوية تُضعف فاعلية السياسات الاقتصادية المألوفة لدى النخب الحاكمة ومستشاريها، مما شجع الرئيس المنتخب على التعهد باتخاذ تدابير جديدة.
لاشك أنّ قطاعات الإنتاج السلعي تراجعت أهميتها النسبية كثيراً في توليد الدخل الأمريكي، إذ لا يتجاوز أسهامها 20 بالمائة من الناتج المحلي، ومجموع حصة الزراعة والتعدين والصناعة التحويلية في الناتج المحلي حوالي 15 بالمائة عام 2015. والمشتغلين في كلّ القطاعات السلعية أقل من 21 مليون، بحدود 16 بالمائة، من مجموع القوى العاملة التي تقدر 132 مليون عام 2015. والعاملين في الصناعة التحويلية عام 2015 تقريباً 12 مليون، بينما كان يزيد عددهم على 15 مليون عام 1948 من مجموع القوى العاملة آنذاك التي تقدر في نطاق 51 مليون.
هذه البيانات لإيضاح أنّ اقتصاد ما بعد الصناعة تعبير له دلالة موضوعية لابدّ أن تظهر جلية يوماً ما في السياسة والمجتمع. من جانب آخر نلاحظ أنّ الاستهلاك الخاص البالغ 12.284 ترليون دولار منه فقط 4 ترليون دولار سلع والباقي خدمات. وإنّ أكثر منتجات الخدمات، إضافة على التشييد والمرافق العامة، غير متاجر بها دولياً وبالتالي لا تخضع للتنافسية العابرة للحدود. وتتشكّل إنتاجياتها وتكاليفها وأنماط توزيع الدخل فيها بعوامل محلية، وليست مثل السلع التي تكون أسعارها دولية ولذا تتكيّف تكاليف إنتاجها ومضامينها التكنولوجية والتنظيمية لإدامة القدرة التنافسية الدولية للاقتصاد الوطني. ولأنّ الخدمات لها هذه الفسحة في الحماية من العولمة تُنافس داخلياً قطاعات السلع وتُضيّق عليها فيتسارع انحسارها النسبي.
ويتساوق وضع الميزان التجاري السلعي مع تلك العملية فالصادرات 1.489 ترليون دولار والاستيرادات 2.291 ترليون دولار، بعجز يزيد على نصف الصادرات. وتَعايَش الاقتصاد الأمريكي مع ذلك العجز لأنّ تمويله ممكن، لحد الآن وفي الأمد المنظور، بصافي صادرات خدمية وتحويلات دخل من الخارج. ويبقى مع ذلك عجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات 463 مليار دولار مولته تدفقات رأسمالية صافية نحو الاقتصاد الأمريكي عام 2015 نتيجة لهيمنة الدولار في السوق المالية الدولية ولأنّه عملة احتياطية رئيسية.
لكن تلك التدفقات المالية الخارجية ليست بلا ثمن فهي ترفع سعر صرف الدولار، فتصبح الصادرات أقل من الحجم التوازني للميزان التجاري الخارجي، وينحسر الإنتاج السلعي نسبياً لكي تنسجم المنظومة مع هذا التلازم في الخصائص البنيوية.
أيضاً لا يخفى على ذوي الخبرة في الاقتصاد الكلي أنّ الاقتصاد الأمريكي يعمل مع ميل منخفض للإدخار، مقارنة مع مجموعة البلدان المتقدمة، فالإدخار الخاص 1.263 ترليون دولار منه تقريباً 827 مليار دولار إدخار شخصي بنسبة 6 بالمائة من الدخل الشخصي الممكن التصرف به، وحوالي 837 ترليون دولار إدخار قطاع الأعمال. لكن صافي الإدخار على المستوى الكلي 609 مليار دولار، حوالي 3 بالمائة من الدخل الوطني، لأنّ 654 مليار دولار إدخار حكومي سالب، أي إنّ الجزء الأكبر من الإدخار الخاص يبتلعه عجز الموازنة العامة. وللتذكير بأهمية الإدخار نبيّن أنّ النمو الاقتصادي يعتمد على جزء من الدخل الوطني لا يستهلك (صافي الإدخار) يخصص لإنتاج ومراكمة وسائل جديدة لتوسيع الطاقة الإنتاجية الكلية ليستمر الناتج (الدخل) بالنمو.
وبموازاة تلك الخاصية وبالارتباط معها يوصف الاقتصاد الأمريكي بضخامة الدين، والحكومة العامة مدينة بمستوياتها الثلاث، دون الولاية والولاية والمستوى الفدرالي، وقد لا تجد محافظة أو ولاية لا يتجاوز دينها 100 بالمائة من إيراداتها، إضافة على الدين الاتحادي، ويقترب الدين الحكومي من 100 بالمائة من الناتج المحلي الأمريكي.
ونظراً لتنامي الاعتراض على الدين والدعوة القوية للالتزام بسقف لا يتجاوزه، من جهة، ولعدم التمكن سياسياً من زيادة نسب الضرائب، من جهة أخرى، اتجهت الحكومة إلى تقييد نمو الإنفاق الحكومي دون نمو الناتج المحلي الإجمالي، بل كان نموه سالباً بالقيمة الحقيقية لسنتي 2013 و2014. وعلى المستوى الفدرالي انخفض بنسبة 5.8 بالمائة و2.5 بالمائة سنتي 2013 و2014 وبقي عام 2015 على ما كان عليه في العام السابق بالقيمة الحقيقية. والاقتصاد الأمريكي، حسب معالجتي الشخصية لبياناته وقناعتي، بحاجة إلى إنفاق حكومي نشط لتحريك الطلب الكلي.
لقد تأثر التوزيع الأُسري للدخل سلباً بالتحولات التي أُشير إلى بعضها آنفاً فقد كانت حصة 20 بالمائة من الأسر الأعلى دخلاً عام 1970 ما نسبته 43.3 بالمائة من مجموع الدخل الأُسري أصبحت تلك النسبة 51.1 عام 2015. وأدنى 20 بالمائة دخلاً من الأسر انخفضت حصتها أيضاً ليصبح متوسط الدخل للأسرة من هذه الفئة بين 6 بالمائة إلى 7 بالمائة من متوسط دخل الأسرة على المستوى الوطني. ويلاحظ عدم تحسن دخل الأسرة لفئة الدخل الأدنى التي تشكل 5 بالمائة من الأسر في ربع القرن الماضي، بل انخفض المتوسط قليلاً ومعنى ذلك أنّ الدخل الحقيقي لهؤلاء الفقراء تراجع عما كان عليه سابقاً بمقدار التضخم المتراكم. ومتوسط دخل الأسرة من السود أصبح عام 2015 أدني مما كان عليه عام 2000 فتآكل جزء من المكاسب التي تحققت لتلك الأسر في الفترة السابقة. ومن المهم الإشارة إلى تفاوت واضح للدخل ما بين التكوينات الأثنية.
تضمنت تصورات الرئيس المنتخب في السياسة الاقتصادية المنتظرة خفض الضرائب على أرباح الشركات والشرائح العليا لتحفيز الاستثمار وخفض الأنفاق الحكومي بالمقابل. بينما لا يتحمّل الأنفاق الحكومي، وخاصة على المستوى الفدرالي، المزيد من التقييد إلّا على حساب الأنفاق العسكري، وقد يكون هذا الأمر دافعاً لمطالبة الرئيس الجديد حلفاء الولايات المتحدة الإسهام في نفقات الدفاع، ويا حبذا لو قادت السياسة الاقتصادية إلى تحجيم موارد الحرب لصالح السلام. وربما لا ينسجم التوجه نحو تقييد الإنفاق الحكومي مع مطلب تطوير البناء التحتي الذي يحتاج تمويل ضخم. وعند التساهل مع رفع سقف الدين العام فيكون ذلك على حساب الموارد التي يراد دفعها نحو الاستثمار في قطاعات الأعمال أي الإبقاء على مشكلة تحويل الجزء الأكبر من الإدخار الخاص إلى الموازنة لتمويل العجز.
إنّ للإنفاق الحكومي، كما تقدم، وظيفة تنشيط الاقتصاد الذي يعاني من نقص الطلب، واتضح من ملاحظة مؤشر استغلال الطاقة الإنتاجية في عموم الصناعة الأمريكية أنّه ينخفض في الاتجاه العام بين عامي 1970 و2015. والانخفاض منتظم في ذروة دورة الأعمال ونهايتها الدنيا، ومع أنّه أدنى من 10 بالمائة، على خط الاتجاه بين السنتين آنفتي الذكر، لكنّه يكفي لتراجع دوافع الاستثمار في الصناعة.
وللرئيس المنتخب ونائبه تصريحات تفيد عدم القناعة بالعلاقة بين النشاط البشري والاحترار ولا يرغبان في إعاقة النشاط الإنتاجي والاستهلاكي بقيود مشددة في استخدام الطاقة. ولذا من المتوقع إضعاف ضوابط حماية البيئة والسيطرة على مقذوفات الكربون والتساهل مع استخراج، ونقل ومعالجة، النفط والغاز والتوسع في إنتاج الفحم. وفي هذا السياق ربما، وهو الأرجح، انخفاض التخصيصات المالية لتطوير الطاقة النظيفة والمساعدات للدول الخارجية لتقليل التلوث في توليد الكهرباء. وهذه السياسات المنتظرة تؤثر في جانبي العرض والطلب على النفط الخام.
وتحتاج التدفقات المالية الداخلة للولايات المتحدة والخارجة منها سياسة أشمل واوضح من مجرد الإشارة إلى الرغبة في إعادة رؤوس الأموال الأمريكية إلى الداخل. فالمركز الاستثماري الدولي للولايات المتحدة الأمريكية بجانبيه الدائن والمدين هو الأضخم في العالم. وتعيد مؤسسات الأعمال الأمريكية استثمار جزء من التدفقات الداخلة في الخارج. وتستلم الولايات المتحدة تحويلات دخل، أرباح وسواها، أكثر مما تدفع للخارج بفارق يقترب من 200 مليار دولار سنوياً حسب أحدث البيانات. وحتى على فرض التزام الرئيس بخفض نسب الضرائب، وتحقق له ذلك، فهذا الحافز لا يكفي لوحده.
ومع زيادة تدفق الأموال إلى الاقتصاد الأمريكي يرتفع سعر صرف الدولار ويزداد عجز الحساب الجاري بمعنى أنّ الإدخار المحلي يبقى أدنى من الاستثمار والاستيرادات تفوق الصادرات بفارق يتسع مع حجم التدفقات الداخلة. ويصعب كسر هذه الحلقة دون تدخل أعمق في الاقتصاد الحقيقي، وتغيرات في سوق المال، لا يسمح بها النظام الاقتصادي هناك.
الهجرة إلى الولايات المتحدة مصدر دائم للعمل منخفض الأجر، وإنّ إخراج المهاجرين غير المجازين وتقييد دخول العمال الأجانب يقلل عرض العمل للمهمات الشاقة وغير المرغوب بها ويرفع الأجر. ولا يدعم هذا الأجراء سياسة استقبال المزيد من الاستثمار الأجنبي في الإنتاج المتجه للتصدير، لأنّ رؤوس الأموال غادرت أصلاً بحثاً عن عمل رخيص.
الشركاء التجاريين الكبار للولايات المتحدة بدلالة مجموع التجارة السلعية على التوالي: كندا؛ الصين؛ المكسيك؛ اليابان؛ المانيا؛ أمريكا الجنوبية؛ بريطانيا حيث يتجاوز حجم التجارة 100 مليار دولار، استيراداً وتصديراً، مع كلّ منها. وتسلسلها حسب الاستيراد: الصين؛ كندا؛ المكسيك؛ ثم بقية الدول كما وردت. ومن جهة صادرات الولايات المتحدة إليها: كندا؛ المكسيك؛ الصين؛ اليابان؛ بريطانيا؛ المانيا؛ كوريا الجنوبية. والعجز التجاري مع الصين هو الأكبر 343 مليار دولار عام 2014.
وليس من دول الشرق الأوسط شريكاً تجارياً مهماً للولايات المتحدة سوى السعودية تسلسل 12 وإسرائيل تسلسل23. وصدّرت الولايات المتحدة إلى السعودية ما قيمته 18.7 مليار دولار، وإلى إسرائيل 15.1 مليار دولار عام 2014 ولديها عجز مع كليهما. ومن مجموعة بركس إضافة على الصين البرازيل حيث صدّرت لها الولايات المتحدة سلعاً بقيمة 42.4 مليار دولار ولديها مع البرازيل فائض بمقدار 11.9 مليار دولار.
لقد أظهر الرئيس الجديد توجهات ميركنتالية قوية تشحذ الوطنية الاقتصادية التي لا يرتاح لها الغرب في عالم الدول النامية والناهضة، بذريعة أنّها تشدد قبضة الدولة على الاقتصاد وتدعم الحكومات المستبدة. لكن مقاربته لها حمائية انكفائية وفي نفس الوقت انتقائية، ولذلك من المشكوك في خدمتها للهدف المعلن. لأنّ فرض حواجز كمركية عالية ضد الاستيراد من الصين، ودول معينة، لا يضمن تعويض المستوردات بإنتاج أمريكي بل قد يتحول الاستيراد نحو أسواق أخرى، في حين تخسر الولايات المتحدة فرصة التصدير للدول التي أقامت الحواجز أمام تجارتها لأنّها ستتخذ إجراءات مماثلة. ولذا من المنتظر أن تعتمد الإدارة الجديدة سياسات وتتخذ قرارات نحو الحمائية الشاملة، وليس الانتقائية، لتنشيط الاستثمار في قطاعات التعدين والطاقة والصناعة التحويلية تكون لها آثار ملموسة على المستوى الدولي بما يتناسب مع حجم السوق الأمريكي.
ومن المتوقع أن تهتم السياسة التجارية بخفض العجز ولذلك يجري التركيز على الصين ثم الدول الأخرى التي لا تجد السلع الأمريكية سوقاً واسعة لديها. بيد أنّ الحواجز الكمركية العالية، إضافة إلى عدم جدوى الانتقائية، تصطدم مع التزامات الولايات المتحدة تجاه منظمة التجارة الدولية. وتمثل ضربة قاصمة للانفتاح التجاري وهو من العناصر الأساسية لما سمي توافق واشنطن منتصف الثمانينات، ولا ينسجم التشدد التجاري مع الانفتاح المالي الذي لا تستغني عنه الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن الضروري الانتباه إلى الحقيقة المهملة وهي أنّ العجز الخارجي انعكاس لعدم كفاية الإدخار لتغطية الاستثمار، والفارق بين الأخير والإدخار يترجمه النظام الاقتصادي في زيادة الاستيرادات على الصادرات، ليكون مجموع الأنفاق الوطني أعلى من الدخل الوطني، وبتعبير آخر الموارد الداخلية أقل من مجموع الاستخدامات. وطالما بقي الميل للإدخار ضعيفاً تبقى هذه الخاصية في الاقتصاد الأمريكي، ولا تتوفر حلول سهلة لمعالجتها لأنّ مستوى النشاط الاستثماري منخفض أصلاً فليس من المعقول انخفاضه أكثر لينسجم مع الإدخار، ومن الصعب الضغط على الإنفاق الحكومي عدا فقرة الدفاع ونفقات أخرى ذات وظيفة في السياسة الخارجية. ومن المعلوم أيضاً أنّ الكثير من الفئات واطئة الدخل تنتظر تحسناً في معيشتها وليس من العقلانية أن تصل الحكومة معها إلى القشة التي تقصم ظهر البعير.
وعلى الأغلب سوف يتكيف البرنامج الاقتصادي للرئيس الجديد مع الترتيبات القائمة خاصة وأنّ نائبه، المعروف بولائه لفكر الحزب الجمهوري ومعارضته للتراجع عن العولمة، يتولى قيادة الفريق الانتقالي وترشيح مَن يشغل الوظائف السيادية والعليا.
الجانب الإيجابي في البرنامج الجديد التركيز على تعريف عقلاني، بمعنى ما، للمصالح بدلالة الاقتصاد والأمن الداخلي. ونأمل أن يقود هذا المنحى إلى مراجعة للسياسة الخارجية، ولو من خلال حساب التكاليف في مقابل العوائد، تساعد على إنهاء الاستقطاب وتوازن العنف والإرهاب في منطقة الشرق الأوسط.
· مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق