والصبر هو أصل الفضائل، وأصل مكارم الأخلاق، ومنه تتفرّع كلّ مكرمة، فهو في حقيقته مقاومة النفس المكاره والشهوات والاستقامة، مع ما يرتضيه العقل والشرع من محاسن الأخلاق والوصول إلى المعارف والمواظبة على الواجبات وترك المحرمات.
وللصبر أنواع وأفراد كثيرة كلّها من الفضائل، ولكلّ منها اسم خاص به وضد مختص به، فيُسمّى الصبر في الحرب (الشجاعة) وضدّه (الجبن)، وفي المصيبة (الصبر - بقول مطلق) وضدّه (الجزع)، وفي الحوادث المضجرة (رحابة الصدر) وضدّه (التضجُّر)، وفي الكلام (الكتمان) وضدّه (الإذاعة والإفشاء)، وإن كان الصبر عن المفطرات سُمِّي (الصوم) وضدّه (الإفطار)، وعن شهوة البطن والفرج يُسمّى (العفّة) وضدّه (التهتُّك)، وفي كظم الغيظ (الحلم) وضدّه (التذمُّر)، وعلى حطام الدنيا (الزُّهد) وضدّه (الحرص والبخل)، وفي المأكل والمشرب (القناعة) وضدّه (الشره).
وقد اعتنى التنزيل العزيز بعبارة (ص ب ر) ومشتقّاتها، اعتناءً بليغاً، فوردت في (104) موضع فيه، واستعملت بصيغ ودلالات متنوّعة.
فقد تكرر الأمر بالصبر كثيراً، قال تعالى: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (هود/ 115)، وقال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (غافر/ 5).
وصيغة فعل الأمر ومؤكدات الجملة دوال على الشدّة التي يتجرَّعها المأمور بالصبر. ولما كان الصبر من الأدوات الناجعة لمغالبة مكاره الدنيا ورد الأمر بالاستعانة به، وقدّم على الصلاة في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة/ 45).
وأكثر ما استعملت مادّة (صبر) في التنزيل العزيز للدلالة على إحدى المستلزمات النفسية لنصر المؤمنين، وتعدَّدت مبانيها لتحقيق هذا الغرض، من ذلك:
1- استعمال صيغة اسم الفاعل المسند إلى جماعة الفاعلين (الصابرين) منصوباً على الاختصاص والمدح إظهاراً لفضيلة الصبر، قال تعالى: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) (البقرة/ 177)، وورد صفة ملازمة لتحقيق النصر في قوله عزّوجلّ: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ) (الأنفال/ 65)، وبرزت صفة مميزة للمؤمنين الصادقين في إيمانهم الصابرين على جهاد عدوّهم في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) (محمد/ 31)، وشرف الله الصابرين فجعل معيته التي هي إرادته المسيطرة على الأشياء مع معيتهم، فقال تعالى: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 66).
2- وجاءت هذه المادّة أقل من ذلك بصيغة فعل الأمر المقترن بجماعة الفاعلين (اصبروا، صابروا)، قال تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 46)، وقال عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا) (آل عمران/ 200).
ولعلّ في الأمر بالصبر إظهاراً لكمال عنايته سبحانه به لكونه أهم ما يعتمد عليه المؤمن عند طاعته ربّه، وإرشاداً إلى أهمّ الأسس في نجاح الإنسان في كفاحه، وبياناً لحقيقة إنّ كلّ فلاح وسعادة سواء في الدنيا أم في الآخرة إنما يعتمد فيه على الصبر والمصابرة التي هي المغالبة في الصبر، ويلزم منها مقابلة الصبر بالصبر وتضاعف تأثيره على المؤمنين وتقوية حالهم به.
ويستفاد من الآية الثانية أنّ الأمر بالصبر الأوّل إنما كان بلحاظ حال الفرد، والثاني بلحاظ حال الجماعة، فالصبر صبر الأفراد على الطاعات، والمصابرة وقوف الجماعة أمام المشاكل الاجتماعية والمصابرة في ميدان القتال ضدّ الأعداء.
ومما يسوغ تكرار الأمر بالصبر هنا مرّتين، ومجيء الثاني بصيغة اسم الفاعل المسند إلى الجماعة (صابروا) الدالة على الاستمرار والثبوت والمشاركة، إنّ الصبر والمصابرة لا تختص بموقف واحد، لتعدُّد الحالات التي يحتاج فيها الإنسان إلى الصبر.
3- وورد الصبر بصيغة المضارع المقترن بـ(إن) في أسلوب شرط، قال تعالى: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران/ 125).
ويُستفاد من الآية الكريمة دلالات مُتعدِّدة، منها:
أ) أنّ أسباب نصرة الله للمؤمن معقودة على الصبر والتقوى إظهاراً لأهميّة الصبر.
ب) أنّ الفعل (يمددكم) ورد بفك الإدغام، ولعلّ السر في ذلك أنّ الإمداد ورد مشروطاً بالصبر والتقوى، لذا جاء فك الإدغام مشعراً بالتراخي والتباطؤ في حصوله، لأنّ ذلك الأمر متوقف على المسلمين أنفسهم فهم إن صبروا واتّقوا الله يحصل المدد.
ج) وصف الملائكة بأنّهم (مسومين) أي: معلمين بآلة الحرب تشجيعاً للمؤمنين على الاقتداء بهم وتشويقاً لهم على أن يكون هؤلاء الملائكة معهم يقاتلون في صفّهم إن هم صبروا واتّقوا.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق