• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

سُبُل الاستقامة ومعالمها

سُبُل الاستقامة ومعالمها

◄يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ).

في هذه الآيات المباركة، يلخّص الله سبحانه وتعالى لنا مسؤوليتنا في هذه الحياة، ويحدّد لنا الكيفيّة التي ينبغي أن نعيش فيها حياتنا الدنيا، حتى نصل إلى الآخرة ونحصل على وعده سبحانه وتعالى لنا في الفيض الإلهيّ عند جواره (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم (مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً).

 

من أين تأتي الطّمأنينة؟!

والله تعالى في هذه الآيات، يحدِّد لنا أمرين ثابتين أساسيّين؛ الأمر الأوَّل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله)، بمعنى أنّ الإنسان منا لا يستطيع أن يعيش في هذه الحياة الدُّنيا وهي تسير به بهذه السرعة الكبيرة جداً، من دون أرض ثابتة، كلّ ما في الحياة متحرّك، وحركة كلّ ما في هذا الوجود، هي أصعب من أن يستقرّ معها الإنسان.

وعندما يتحرّك الزّمن بهذه السّرعة، لا نملك إلّا أن نتعلّق بشيء ثابت يعطي الزّمن معناه واستقراره، ويعطينا الطمأنينة في الحياة. ولذلك ابحثوا في هذه الدُّنيا عن كلّ الذين لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، أو لا يؤمنون بأنّ هناك قوّة خارقة خلف هذا الوجود، هل يشعرون بسكينة أو بطمأنينة أو باستقرار في هذه الحياة؟ أليس الشعور الذي يلخّص حياة هؤلاء هو الضّياع المطلق؟

ما معنى أن أكون في هذا الوجود كلّه، في هذه العظمة كلّها، ثم لا أعرف من أين أتيت، ولا إلى أين أنا ذاهب، ولا كيف أتحرّك في هذه الحياة بالطريقة التي أبقى فيها ساكناً مستقراً؟ أليس هذا معنى آخر لما نسميه الضياع والقلق المطلق؟! أن لا يعرف الإنسان من أين أتى، ولماذا أتى ولماذا خلق، ولماذا هو موجود، ولماذا هو يسعى من أجل رزقه، ولماذا يقيم علاقات مع الناس، ولماذا يتزوّج، ولماذا ولماذا... والـ"لماذا" الكبيرة تتحوّل إلى "لماذا" صغيرة في كلّ قضيّة من قضايا حياتنا...

كثيرون نسمعهم يقولون إنّنا لا نؤمن بوجود خالق لهذا الوجود. دعونا نقول إنّ هذا على الأقلّ جواب مستعجل...

هل يعقل أنّ قضيّة من قضايا المصير الأبديّ، تحسم في جلسة سمر بين مجموعة من الرّفقاء يتحدّثون عن بعض القضايا وبعض التشكيكات؟ هل يعقل أن تحسم في ثوان معدودة، في ساعات، في شهور، في أيام، بل حتّى في سنين؟!

على الأقلّ، فليبحث الإنسان وليقل لاأزال أفكّر. الموضوع ليس سهلاً ليحسم خياره بأنّه ذاهب إلى العدم وأتى من العدم...

والله يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

 

وظيفة الإنسان في الحياة

فإذاً أنت وظيفتك، أيّها الإنسان، في هذه الحياة، أن تجسِّد معنى العبوديّة، وعندما تجسِّد معنى العبوديّة لي، ترضى وتربح ذاتك ونفسك ومصيرك، لا لأنّني أحتاج إلى صلاتك وعباداتك، ولا إلى مالك، ولا إلى أيّ شيء مما أنا أعطيتك إيّاه، ولكن لأنّ عبوديتك لي تعني حريتك أمام كلّ شيء في هذا العالم، تعني أن لا شيء يستعبدك، أو يقهر إرادتك، أو يفرض عليك تحت أيّ قوّة أيَّ شيء، إذا أنت لم تعتقد أنّ هذا الشّيء هو الحقّ والعدل.

الله سبحانه وتعالى يعطي هذه الحياة معناها (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ) عرفنا من أين ولماذا ونعرف إلى أين عندئذٍ، لأنّ الذي خلقنا قال لنا: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ). سأجمعكم وتأتون يوم القيامة كما خلقناكم، وكلّ واحد لديه سعيه في هذه الحياة الدّنيا، وبالتالي، أمامكم طريق واحد، إذا سلكتموه فستعيشون نتيجتين؛ النتيجة الأولى في الدُّنيا، والنتيجة الثّانية في الآخرة.

 

السّبيل إلى السّعادة

في حياتكم الدُّنيا، أنتم تبحثون دوماً عن السعادة؛ كيف يمكن أن نحصل على السعادة في الحياة الزوجيّة، في الحياة الأسريّة، في السياسة؟ كيف يعيش الشّعب سعادة الحياة؟...

وهذه السعادة ملخَّصة بأمرين، كما يقول تعالى، وهما أن تعرف ربَّك، وأن تستقيم على أمرك عليه (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا). لكنَّ هذه الاستقامة ليست كلمة، وليست شعاراً، ولا هي عناوين عامّة... هذا الموضوع بحاجة إلى تخطيط وعمل ووعي، أن نعرف معالم هذا الطّريق، إذا كان هدف الواحد منا هو الآخرة، فمن الذي يعرف الآخرة غير الله عزَّوجلّ؟! الله الذي يعلم ما ينتظرنا في يوم القيامة، حدَّد لنا الطريق الموصل إلى يوم القيامة، وبالتالي، لابدّ أن أعرف الطريق الذي سأسلكه لأصل إلى الهدف.

 

معالم الطّريق إلى الاستقامة

وتحديد الطّريق الذي نسلكه واحد من أهمّ العناصر التي نحتاجها لكي نستقيم. والاستقامة معناها الثَّبات، يعني أنّها تختزن شيئاً من الصِّراع. عندما نسلك طريقاً معيَّناً، هناك ظروف عديدة وتحدّيات كثيرة في الحياة، وهناك عناصر تجذبنا يميناً ويساراً، هناك عوامل عديدة تريد أن تحرّفنا عن الطريق وتخرجنا إلى طريق آخر...

فالاستقامة هي الثَّبات على هذا الطّريق، ولكنّ الطريق المستقيم الذي نسلكه إلى الله فيه معالم، فيه إشارات سير، فيه خطوط على الطّريق، هذه الخطوط نسير عليها لنعرف إذا كنّا لانزال ضمن الطّريق أم لا...

ويمكن أن نشير إلى ثلاثة معالم؛ معالم مرتبطة بالزَّمان، أنا أين في هذه الأزمنة؟ يعني مثلاً إذا حان وقت الصّلاة، أين أكون؛ مع المصلّين أم مع غير المصلّين؟ لأعرف إذا كنت على الطّريق المستقيم أم على غير هذا الطّريق.

في زمن الحجّ أين نحن؟ في زمن رمضان، في المناسبات التي تغذّينا روحيّاً... أين نحن؟ إذا وجدنا أنّ هذه الأمور لا تعنينا، فلا نكون على الطّريق المستقيم.

لماذا جعل الله أزمنةً؟ هل لأجل أن يضيّق علينا ويزيد ثقلاً على حياتنا؟ بل إنّه جعل هذه الأزمنة لتكون ذكرى لنا، لنذكره، لأن الإنسان في غمرة الحياة ينسى، والله تعالى يقول لنا: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

وبالنّسبة إلى الأمكنة، أين نحن؟ إذا كان النّاس يجتمعون في مكان للصّلاة، في مكان للعلم وللمعرفة، أين أنا في هذه الأمكنة؟ هل أكون فيها أم في أماكن اللّهو؟

عندما نصلّي، نقرأ في سورة الفاتحة: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ * غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ * وَلاَ الضَّالِّينَ). هذا تحديدٌ لمعلم من معالم الطريق، لنتأكّد هل نحن مستقيمون أو ربما انحرفنا... هل نمشي في طريق رسول الله أم في طريق أبي جهل وأبي لهب؟ في طريق المؤمنين المجاهدين، أم في طريق الّذين يبيعون أنفسهم ويصبحون عملاء؟ في طريق المصلحين الذين يستقيمون في صلاحهم على حدّ السّيف، فلا يقبلون قرشاً من حرام، أم في طريق أولئك الذين ينهبون البلد بالملايين...؟

 واحدٌ من المعالم هو أن نعرف مع من نسير، فإذا وجدنا أنَّ مجتمعنا في هذا الطَّريق هو مجتمع الفاسدين والظالمين والمنحرفين، إذاً علينا أن نعيد النَّظر ونراجع الخريطة، لربَّما تهيَّأ لنا أنّنا نسير في طريق الله، وانتبهنا أنّنا في طريق لا يوصلنا إلى الله. في أيِّ خطوة من خطواتنا، هناك مجال للتَّدارك...

هذا الأمر هو خيار، بمعنى أنّنا نحدِّد خياراتنا في الحياة، والله اختصرها بكلمتين: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)... الاستقامة على هذا الطَّريق يوصلك إلى الجنَّة، وغيرها لا يوصلك. (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ).

هذه الاستقامة هي شيء صعب، تحتاج إلى وعي، وإلى تدرّب على مواجهة التحدّيات، حتى لا ينحرف الإنسان، وتحتاج إلى تحديد المعالم، حتّى نتأكد فيها في كلّ لحظة أنّنا نسير على الطّريق الّتي رسمها لنا الله...►

ارسال التعليق

Top