من عاش ـ قبل عدة سنوات ـ تجربة النفر من عرفات قبيل أذان المغرب، حيث كانت مئات الحافلات والسيارات تتصارع فيما بينها للخروج في وقت واحد، وقد بدأت ظلمة الليل تلف المكان، ويتزاحم في وسطها آلاف الناس للخروج من مضايق الطرق المتعرّجة عند إحدى مخارج هذا الوادي، يدرك معنى أن تتنقل على قدميك في تلك اللحظات وبصورة متعجلة وكأنك تبحث عن شيء تفقده.
ففي وسط هذا المشهد المليء بالضجيج وغيوم الدخان الأسود المتصاعد من وسائل النقل المختلفة، والإجهاد الذي أخذ من الحجاج مأخذه بعد برنامج عبادي مكثَّف وشحّة في النوم، ترجّل الحاج كاظم من الحافلة التي كان يستقلّها بصورة مفاجئة وكأنه فارس قد نزل من صهوة جواده ليقاتل راجلاً ! وصار يصول ويجول بكل حماسة وهمّة بين الحافلات الضخمة والسيارات المتشاكسة، غير آبه بكل احتمالات الخطر ـ وهو الذي قد تجاوز السبعين من عمره آنذاك بسنوات ـ إذ يُمكن في أقل من لحظة أن تُحشر بين حافلتين أو تُسحق تحت إطار حافلة متهوّرة.. وما أكثر الحوادث التي كانت تقع في وسط هذه الفوضى الرهيبة.
كان هذا التصرّف المفاجيء من قبل الحاج كاظم حينئذ بغرض الاطمئنان بنفسه إلى أن كل الحجاج قد ركبوا حافلات الحملة الثمان، وأن أحداً منهم لم يضلّ طريقه في أثناء الانتقال من مقر الحملة في عرفات إلى الموقف، وأراد في نفس الوقت أن يتأكد من تتابع حافلات الحملة، الواحدة تلو الأخرى، كي لا تتداخل فيما بينها أية حافلات أخرى قد تُربك أو تعيق حركتنا للوصول إلى مزدلفة في أسرع وقت وأفضل صورة، كل هذا على الرغم من توافر العديد من شباب كادر الحملة ومرافقي سائقي الحافلات ممن أوكِلت إليهم مهمة تنظيم حركة السير ونقل الحجاج.
هذا المشهد يلخّص بشكل كبير كيف كان الحاج كاظم عبدالحسين محمد ـ أعلى الله مقامه ـ يفكّر ويعمل ويجتهد.. بإخلاص.. وتفاني.. وتضحية.. وإيثار.. ودقة.. وحرص.. وإتقان.. ووعي.. وعطاء يقل نظيره.
وهذه هي الصورة النمطية لطبيعة العمل الحركي عند المرحوم الحاج كاظم، سواء في إطار العمل الدعوي، أو الخيري، أو الاجتماعي.
طالما كان يقول عندما ألتقيه: لم تغمض لي عين في الليلة الماضية، فقد كنت أفكر كيف يمكن حل المشكلة الفلانية المرتبطة بالعمل الإسلامي، أو كيف نقدم الدعم للمنكوبين في الحادثة الكذائية أو الحرب الفلانية، وما إلى ذلك من مجالات كانت تأخذ من تفكيره وجهده ووقته الكثير إلى أن يطمئن إلى أنها قد تحققت أو أصبحت قابلة للتنفيذ.
ثم نجده يوماٌ في أفريقيا وأخرى في الهند وثالثة في سوريا ورابعة في لبنان ثم في إيران ثم في لندن ففرنسا فألمانيا فالحج فالعمرة فمخيم الشباب الربيعي في الكويت، ولا يكاد يحط في مكان إلا ويُنبت فيها حبة عمل رسالي أو خيري، ثم لا يمر وقت طويل إلا وتجد هذه الحبة قد أنبتت سنابل وسنابل وسنابل. وفي كل سنبلة مائة حبة.. ويضاعفها الله كما يشاء.. ولذا فإنك لا تكاد تيمم وجهك صوب المشرق أو المغرب إلا وتجد للحاج كاظم ذِكراً طيباً وأثراً كريماً.
كل هذا وهو في قمة التواضع، وكامل الأدب، وطِيب المعشر، يستذكر الآخرة على الدوام، ويذكّر بها مَن حولَه، ويضرب لهم الأمثال بكلماته البسيطة
وتعبيراته الأبوية، ويحثهم على دوام الهمة في العمل الصالح، فما لهذه الدنيا خُلقنا، وإن الإنسان أضعف من أن يتحمل حرارة الشمس، فكيف بعذاب الآخرة؟
لذا فإن من عايش الحاج كاظم ثم يقرأ الخطبة التالية لعلي عليه السلام - كما جاءت في نهج البلاغة - فإنه لا يملك إلا أن يقول: وَيكأنّ الإمام عليه السلام يصف هذا العبد الصالح:
((عباد الله إن مِن أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف ، فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعد القِرى ليومه النازل به، فقرّب على نفسه البعيد وهوّن الشديد. نظر فأبصر. وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات. سهلت له موارده فشرب نهلا، وسلك سبيلا جددا، قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى من الهموم إلا هما واحدا انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى. قد أبصر طريقه. وسلك سبيله. وعرف مناره. وقطع غماره. استمسك من العرى بأوثقها. ومن الحبال بأمتنها. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس. قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه. وتصيير كل فرع إلى أصله. مصباح ظلمات. كشاف عشاوات. مفتاح مبهمات. دفّاع معضلات . دليل فلوات. يقول فيفهم ويسكت فيسلم. قد أخلص لله فاستخلصه. فهو من معادن دينه. وأوتاد أرضه. قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحق ويعمل به. لا يدع للخير غاية إلا أمّها، ولا مظنة إلا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده وإمامه. يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله)).
سلاماً إلى روحك الطيبة.. وذكراك الخالدة في قلبي.. ورنين صوتك الحاني.. يا أبا حسين
* إمام مسجد بهبهاني/ العدان
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق