◄أدرك علماء النفس حديثاً أهمية الرضا عن النفس وعن الحياة، وأهمية هذا الرضا في علاج الكثير من الإضطرابات النفسية. ففي دراستين نشرتهما مجلة (دراسات السعادة) تبيّن أن هناك علاقة وثيقة بين التسامح والعفو من جهة، وبين السعادة والرضا من جهة أخرى.
وأكّدت الدراسة أنّ الذي تعوّد على التسامح يكتسب مناعة مع مرور الزمن فلا يحدث له أي توتر نفسي، أو ارتفاع في السكري أو ضغط الدم، واتّضح من خلال الدراسة كذلك أنّ العفو والتسامح يجنِّبا صاحبهما الكثير من الأحلام المزعجة والقلق والتوتر الذي يُسبِّبه التفكير المستمر في الرد على مَن أساء إليه أو الإنتقام منه.
ويقول العلماء: لأن تنسى موقفاً مزعجاً حدث لك، هو أفضل بكثير من أن يضيع الوقت وتصرف طاقة كبيرة من دماغك على التفكير والبحث عن طرق الانتقام، وفي هذا السياق تأتي الحكمة التي تقول: "إذا ما أظلّ رأسك همُّ، فقصِّر البحث فيه لكي لا يطول"!
كما وجد علماء البرمجة اللّغوية العصبيّة أن أفضل منهج لتربية الطفل السوي هو التسامح معه، فكل تسامح هو رسالةٌ إيجابية يتلقّاها الطفل، وبتكرارها يعوِّد نفسه على ممارسة التسامح أيضاً وهو ما يُبعد عنه روح الانتقام المدمِّرة التي يعاني منها معظم الشباب في عالمنا الإسلامي المعاصر.
إنّ الشخصية المتسامحة في الفهم النفسي لها، تتّسم بمجاهدة شديدة للنفس والهوى، وهذا من صفات القوّة والرِّفعة والتمكّن الكامل من زمام النفس، وما خضوعها للتسامح إلا دليلٌ على سموِّها ورقّتها في مقابلة الإساءة، بالإحسان والشر بالخير.
ويضيف علماء الصحّة النفسية من خلال دراساتهم الميدانيّة، أنّ للتسامح مفعولاً إيجابياً على الصحة النفسية للإنسان، فالتسامح يُعتبر من أقوى أساليب العلاج لما يُسمّى بالأمراض (النّفسجسميّة) التي هي أمراض عضويّة تعود لأسباب نفسيّة.
وبحسب النظرية المعرفية، فإنّ مستوى صحّة الإنسان النفسية وسعادته وتوافقه مع نفسه ومع المجتمع، يتوقّف على طبيعة ما يحمله من أفكار وما يتبنّاه من قناعات، فإذا تبنّى الإنسان أفكاراً لا عقلانيّة، أدّى ذلك إلى إصابته بالمرض والإضطراب، والعكس صحيح.
وآية التسامح في قوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (فصلت/ 34)، تشمل هذا المبدأ، ولذلك فبمجرد تبنِّي الفرد لقيمة هذه الفكرة الإيجابية: عدم استواء السيِّئة والحسنة، سيكون قادراً على ممارسة سلوك التسامح*.
أمّا المدرسة الإنسانية في العلاج النفسي، فترى أنّ الإنسان خيِّر بالفطرة نبيل بطبيعته الإنسانية، الأمر الذي يدعونا إلى أن نتفاءل بأن في داخل الإنسان – أيّ إنسان، حتى العدوّ – خيِّراً ما، وما علينا حتى نُخرجه من القوّة إلى الفعل إلّا أن نُبدي اهتماماً وتقديراً بكرامته أكثر، وعندها سوف يُخرج ما بداخله من كنوز وخير هو أشبه بالمعادن النفيسة في باطن الأرض.
وأثبتت الدراسات النفسية العديدة أنّنا من خلال سلوك التسامح، نستطيع معالجة الكثير من المشكلات السلوكية والإضطرابات النفسية، ومنها: التغلّب على المخاوف المرضية، وقهر الإكتئاب، وتعلّم مهارات التكيف الفعّال لمواجهة الضغوط النفسية، وإعادة التأهيل النفسي لحالات الإدمان، ودحض الأفكار اللاعقلائيّة، وإحلال العقلائية محلّها، ورفع دافعية التعليم، والإنجاز، وتحسين صورة الذات التي تُعتبر الأساس في ممارسة السلوكيات الإيجابية والتخلص من السلوكيات السلبية، وتعلّم مهارات التواصل مع الآخرين، وإدارة الذات، ومقاومة الكثير من الأمراض (النفسجسمية)؛ كالسكّري، وضغط الدم، والجلطات، والعقم، وغيرها.
كما لاحظت دراسات علم النفس الإجتماعي وأنماط الشخصية، أنّ التسامح من ملامح الشخصية السوية التي تملك نظرة إيجابية للحياة، أمّا الشخصيات التي تُعاني من اضطراب كـ(الشخصية السيكوباتيّة)، فهي لا تعرف الحبّ والرحمة والتسامح، ولذلك ترى صاحبها نصّاباً، محتالاً، مخادعاً، لا يحترم القوانين والأعراف والتقاليد، وليس لديه ولاء إلا لملذّاته.
ومثلها أيضاً (الشخصية البارانوية)، وهي شخصية (الشكّاك المتعالي)، حيث أن محور هذه الشخصية هو الشك في كلّ الناس، وسوء الظنّ بهم، وتوقّع العداء والإيذاء منهم، فكلّ الناس في نظره أشرار متآمرون، وهو كنظيره صاحب الشخصية السيكوباتيّة، لا يعرف الحبّ والرحمة والتسامح؛ لأنّه في طفولته المُبكِّرة لم يتلقّ الحبّ من مصادره الأساسية (الوالدين)، لذلك لم يتعلّم قانون الحبّ والتسامح، وهو اكتسابيّ ولا شكّ.
والشخص الباروني دائمُ الإتِّهام لغيره، مثاله القرآني (قابيل).. ومهما حاول الطرف الآخر إثبات براءته، فلن ينجح في ثنيه عن الإنتقام، بل يزيد في شكِّه وسوء ظنِّه، حتى أن حالات التودّد والتقرّب من الآخرين تجاهه تُقلقه وتُزيد من شكوكه.
من ذلك كلّه، نخلص إلى أنّ من أهم صفات الشخصيات المضطربة، والتي تُعاني من القلق المُزمن، هو أنّها لا تعرف التسامح، ولم تُجرِّب لذّة العفو ونسيان الإساءة، وهذا ما يُفسِّر لنا قوله تعالى: (وإن تَعْفُو أقْرَبُ لِلتَّقْوى) (البقرة/ 237)، تفسيراً عمليّاً، وسريريّاً، وميدانيّاً.
يقول الشاعر:
إذا ضاقَ صَدْرُ المَرْءِ لم يَصفُ عَيْشُهُ **** وما يَسْتَطِيبُ العيشَ إلاّ المُسامحُ!
- (العفوّ) (الغفور):
العفو، لغةً: المحو، وترك عقوبة المُستحقّ، وعفوتُ عنه: قصدتُ إزالة ذنبه، قال تعالى: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 52)، و(العفو) أبلغ من (المغفرة)؛ لأنّ المغفرة ستر، والعفو تجاوزٌ ومحو، (الصّفح) أبلغ من الكل؛ لأنّه محو وإبداء صفحة جميلة. قال سبحانه: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85).
و(العفوّ) فاعل العفو، وعفا عنه عفواً: تجاوزَ عن ذنبه بالصّفح والمغفرة، وهو من أسماء الله الحُسنى، ورد خمس مرّات في القرآن الكريم، جاء في أربع مرّات مصحوباً مع اسمه (الغفور)، كما في قوله عزّ وجلّ: (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (الحج/ 60)، فهو تعالى ساترٌ، متجاوزٌ، ماحٍ.
وقد ورد في (الموسوعة الإسلامية الميسّرة) ج8، التعريف بهذا الإسم على النحو الآتي:
الله سبحانه هو الذي يمحو الذنوب جميعاً، ويتجاوز عن السّيِّئات بلطف كرمه، وجميل إحسانه، وفائق رحمته. وفي الحديث: "اتّقِ حيثما كنت، وأتبع السيِّئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن".
وهذا توجيه تربوي وأخلاقي من الرسول الكريم (ص) لنمحو سيِّئات المسيئين إلينا، ونصفح، ونعفو عنهم، وعلى العبد المؤمن أن يتخلّق بأخلاق هذا الإسم الجليل، فيعفو عمّن ظلمه، ويُحسِن إلى مَن أساء إليه، وهذا من مكارم الأخلاق.
قال (القشيري): "العفو، هو الذي يمحو الذنوب ويزيلها بريح المغفرة"!
والعفو خلقٌ عالٍ، حضّ الله عزّ وجلّ عليه رسوله وعباده، فقال سبحانه: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (آل عمران/ 159). كما أمره بالعفو عن أهل الكتاب، بقوله جلّ جلاله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) (المائدة/ 13).
وجاء في الحديث عن رسول الله (ص): "اللّهمّ إنّك عفوٌّ كريمٌ تُحبّ العفو، فاعفُ عنِّي".
فالعفوُّ والغفور اللّذان يشيران إلى صيغة المبالغة، أي أنّ العفو هو كثير العفو، والغفور هو الكثير الغفران، يُعلِّمان أتباع القرآن وتلامذة المدرسة الإسلاميّة كيف يكون التجاوز عن الذنب، وكيف يُترك العقاب، حتى ورد أن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب كلها جميعاً بما فيها الشِّرك الذي إذا تابَ منه العبد ووحّد الله سبحانه غفر الله تعالى له. يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) (الزمر/ 53).
وعلى ضوء ما تقدّم، فإنّ التخلّق بأخلاق الله يعني اتّخاذه المثل الأعلى، فكما تريد من الله تعالى أن يعفو عنك، ويُكفِّر عن سيِّئاتك، ويغفر لك ذنوبك كلّها، فإنّك لكي تستطيع الحصول على ذلك وتأمينه وضمانه، لابدّ أن تعفو عمّن ظلمك، وتصفح أو تحسن إلى مَن أساء إليك.
في المأثور من الدعاء، ترجمة جميلة لهذا المعنى.. أنظر وتدبّر:
"اللّهمّ إنّك أنزلتَ في كتابكَ أن نعفُوَ عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا..
وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد جئتكَ سائلاً فلا تردّني إلا بقضاء حاجتي...
وأمرتنا بالإحسان إلى ما ملكت أيماننا، ونحنُ أرقّاؤكَ فاعتق رقابنا من النار..
يا مَن يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، إقبل منِّي اليسير، واعفُ عنِّي الكثير، إنّك أنتَ الرحيم الغفور"!
يقول تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (النور/ 22).
فكن على يقين أن مسامحتك الآخر: أخاً أو صديقاً أو قريباً أو زميلاً أو زوجاً، أو حتى غريباً، لن تكون بلا ثمن، فثمنها الكبير أنّ الله تعالى يُسامحك ويعفو عنك ويغفر لك أضعاف ما غفرت لصاحبك.
لقد بشّر الله تعالى العافين عن الناس بالجنّة، فقال: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134). وهل بعد الجنّة خير، أو ثمن أعلى؟
والإسلام إذ يوصي بالعفو، فإنّه يُقرِّر أنّ من حقّ المظلوم أن يعاقب على السيِّئة بمثلها، بشرط الإصلاح، إلا أنّ العفو أكرم وأقرب إلى مرتبة الإحسان.
قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى/ 40)، أي مَن محاها ولم يُعاقب عليها، ومَن يفعل ذلك غير المُسامِح ذي النفس الكبيرة، وقديماً قيل: (المُسامِح كريم)!
وللعفو عند المقدرة أثر كبير في النفوس، ولا أدلّ على ذلك من عفو رسول الله (ص) على أهل مكّة عند فتحها، إذ قال لهم بعد أن لقيَ ما لقيَ منهم من الأذى والعنت والإعراض والجحود: "إذهَبُوا فأنتُم الطُّلقاء"!
- قانون دفع السيِّئة بالحسنة:
قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (المؤمنون/ 96).
وقال سبحانه: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت/ 34-35).
تشير التفاسير في معنى الآيتين إلى أنّ من أبرز السّبل المؤثِّرة في مكافحة الأعداء الأشدّاء والمعاندين، والتعامل مع أصعب الناس، هو ردّ السيِّئة بالحسنة؛ لأنّ ذلك يوقظ مشاعرهم، فيحاسبون أنفسهم على ما اقترفوه من أعمال سيِّئة، ويعودون للصواب غالباً.
ويتجلّى هذا المنهج واضحاً في سيرة الرسول الأكرم (ص) وأئمة الهدى (ع)، حيث كانوا يردّون سيِّئات الجُناة بالإحسان إليهم والإنعام عليهم، فيكسبون ودّهم، ويُفجِّرون في نفوسهم ووجدانهم الإستجابة للحقِّ والرفض للباطل. كانت لغة أحدهم مع المعتدي أو المسيء: يا هذا إن كنتَ جائعاً أشبعناك، وإن كنتَ فقيراً أغنياك، وإن كنتَ مَديناً قضينا عنكَ دينك، فنحنّ لا نردّ الإساءة بمثلها أو بأسوأ منها، بل على العكس نُقابل الإساءة بالإحسان.
وهكذا كانت سيرة المسلمين الذين تأسّوا بهذه المواقف المشرِّفة، فكان رد السيِّئة بالحسنة مبدأً أساسياً لاقتلاع السيِّئات، وتحويل العدو إلى وليّ حميم.
إنّ ردّاً كهذا على المسيء أو الساب أو الشاتم أو المتجنِّي: "إن كنتُ كما تقول غفرَ اللهُ لي، وإن كنتُ لستُ كما تقول غفرَ الله لك".
ليس يُردع العدو عن التمادي في اساءته، فقط، بل يُشعره بالخجل والندم، إلا السفيه، فلا شك أن هذا الأمر خاص بالحالات التي لا يسيء فيها العدو استغلال طيبة ونُبل وسماحة الطرف الآخر، فيرى إحسانه إليه أو عفوه عنه ضعفاً منه، فيزداد جرأة على الظلم والعدوان.
كما أنّ هذا المبدأ لا يُبرِّر مسالمة أعداء الله والتسليم لهم، فهم العدو الذي لا نصافي، ولكنّه مبدأ يفعل فعله ويُحقِّق آثاره في الوسط الإسلامي بين الأخوة المُتخاصمين، والأزواج المُتنازعين، والساسة المُختلفين. والقول: "إذا قدرت على عدوِّك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه". لا يشمل الأعداء التاريخيين للأُمّة، الذين شنّوا عليها الحروب وقطعوا عليها الدروب، وتركوا في نفوسها من جروح التواطئ والتآمر الندوب.
وفي الحكمة الصينيّة: "نستطيع مسامحة المُذنب، ولكن ليس قليل الحياء"!
إنّ كلمة (عدوّ) في الروايات والأحاديث الداعية إلى العفو والصّفح والمغفرة، هو الإنسان الذي تُخاصمه ممّن هو قريب إليك، تماماً كما في القول: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكن بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"، وتماماً مثل: "اقلع الشرّ من صدرِ غيرك بقلعه من صدرِك".
فـ(البغيض) هناك و(الشِّرِّير) هنا، ليس هو الطاغية المُتفرعن، أو الكتابي الذي يُحرِّف الكتاب ويُناصب أهل الإسلام العداء ليلاً ونهاراً، وإنما هو الأخ أو القريب أو الشريك، أي المراد به الخصم لا العدو والمُستفحل العداوة.
في الأمثال الجورجيّة: "إيّاك أن تُسامح الثعلب على سرقة دجاجاتك؛ لأنّه سوف يسرق خِرافَك"!
ولقد أفاد بعض المفسِّرين على هامش آية ادفع السيِّئة بالحسنة، أنّه في الوقت الذي لا يملك فيه أعداؤكم سوى سلاح الافتراء، والاستهزاء، والسخرية، والكلام البذيء، وأنواع الضغوط والظلم، يجب أن يكون سلاحكم – أنتم المسلمون الأبرار والدعاة الأخيار – التقوى والطُّهر، وقول الحق، واللِّين، والرِّفق والمحبة والتسامح.
قانون دفع السيِّئة بالحسنة، يقول في أحد أبعاده: إدفع الباطل بالحق، والجهل والخشونة بالحلم والمُداراة، وقابِل الإساءة بالإحسان، فلا تردّ الإساءة بالإساءة، والقُبح بالقُبح؛ لأنّ هذا هو أسلوب مَن همّه الانتقام، وهو يقود إلى عناد المُنحرفين أكثر.
ويقول في بُعدٍ آخر:
إنّ كلّ من ارتكب السيِّئة ينتظر الرد بالمثل، خاصة الأشخاص الذين هم من هذا النمط، وأحياناً يكون جواب السيِّئة الواحدة عدة سيِّئات، أما عندما يرى المُسيء أنّ مَن أساء إليه لا يردّ السيِّئة بالسيِّئة وحسب، وإنما يُقابلها بالحسنة، عندها سيحدث الإنقلاب في تفكيره ونظرته، ويحدث التغير في شخصيّته، وسيؤثِّر ذلك على ضميره فيوقظه، وسيشعر بالحقارة على ما قام به، وينظر بعين الإكبار والتقدير إلى مَن أحسن إليه في قبال إساءته، وبذلك تزول مشاعر الحقد والعداوة من الداخل لتترك مكانها للحب والمودّة. يقول الشاعر:
سامح صديقَكَ إن زلّت به قَدَمٌ **** ليس يسلمُ إنسانٌ من الزّللِ
هذا القانون المليء بقوانين الحياة هو قانون التسامح الأوّل، وهو الذي جعل بعض قادة الفتح المكِّي يُغيِّرون شعار: "اليوم يوم الملحمة، اليومُ تُسبى الحُرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً"! إلى شعار المسامحة الذي يتعالى على الإساءات ويتناسى السيِّئات: "اليوم يوم المرحمة، اليوم تُحمى الحُرمة، اليوم أعزّ الله قريشاً"!
لقد أدب الله نبيّه محمّداً (ص) أدباً يمتدّ مع الزمن، فقال: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي إدفع سيِّئة مَن أساء إليك بحسنتك، حتّى يكون (الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). وهل التسامح إلا هذا؟!
جاء رجلٌ إلى النبي (ص)، فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ فصمت (ص)، ثمّ أعاد عليه الكلام، فصمت، فلمّا كان في الثالثة، قال: "اعفُ عنه في كلِّ يوم سبعين مرّة"!!
ولذلك أُثِرَ عنه (ص) قوله: "ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزّاً".
وأمّا السيد المسيح (ع)، فيقول: "إذا قرّب أحدُكم قربانه ليذبحه، فذكر أنّ أخاه واجِدٌ (غضبان، أو زعلان) عليه، فليترك قربانه، وليذهب إلى أخيه فليرضيه، ثمّ ليرجع إلى قربانه"!
يقول الشاعر:
خُذ العَفْوَ وأمُرْ بعُرْفٍ كما **** أُمِرْتَ وأعْرِض عن الجاهلين
وَلِنْ في الكلامِ لكلِّ الأنامِ(**) **** فمستحسنٌ من ذوي الجاه لِينْ!►
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الهوامش:
(*) لابدّ من الإشارة هنا إلى أن مجرد تبني قيمة أو فكرة ما ليس شرطاً كافياً في تحوّلها إلى سلوك، هي قناعة، والقناعة تتفاعل مع النفس لإفراز مسلك اجتماعي معيّن، فإذا أضفى عليها الإنسان من روحه وأسبع عليها من عواطفه، لتبدو وكأنّها نابعة من النفس وليست مستوردة من الخارج، كانت إمكانيّة تأثيرها أبلغ وأعمق وأوسع.
(**) الأنام: النّاس.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق