البشرية في عمومها أُسرةٌ واحدةٌ ترجع في أصل خلقتها ونشأتها إلى نفسٍ واحدةٍ هي نفس آدم (عليه السلام) أبو البشر. وقد قرّر القرآن الكريم هذا المبدأ في مفتتح سورة النِّساء في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1). من هنا جاءت نصوص القرآن الكريم والسُّنّة النبوية موجّهةً إلى إحياء الشعور بالتعاطف الأخوي الإنساني، مؤكّدة وشائج الترابط النِّسبي بين أفراد الإنسانية في شتّى الأزمنة والعصور بما يدعم ذلك الترابط والتعاون المسوق إلى تبادل المنافع والخير، وتحقيق المحبّة والوئام للبشرية أجمع. كما قرّر القرآن الاختلاف كحقيقةٍ إنسانيةٍ طبيعيةٍ، وتعامل معها على هذا الأساس. فالإنسانية واحدةٌ، وقد خُلِقت من نفسٍ واحدةٍ. وهذه الوحدة ليست في الأصل فحسب، بل في الهدف كذلك، وهو التعارف.
والغاية من التقسيم إلى شعوبٍ وقبائل إنّما هي التعارف لا التخالف، والتعاون لا التخاذل، والتفاضل بالتقوى والأعمال الصالحة التي تعود بالخير على المجموع والأفراد، والله تعالى ربّ الجميع يراقب هذه الأُخوّة ويرعاها، وهو يطالب عباده جميعاً بتقريرها وصيانتها، فيقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).
هذه الوحدة تقوم على الاختلاف والتنوُّع، وليس على التماثل والتطابق، وإظهار الوحدة في التنوّع ودعوة الناس إلى التعارف هو غاية هذا الاختلاف؛ ذلك أنّ الاختلاف آيةٌ من آيات عظمة الله، ومظهرٌ من مظاهر روعة إبداعه في الخلق. يقول القرآن الكريم: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22). واختلاف الألسن واللُّغات المشار إليها في الآية لا يعني اختلاف اللَّهجات كوسائل للتخاطب والتفاهم والحوار فحسب، بل ينصرف إلى ما تتضمّنه تلك اللغات والاختلاف في اللهجات من معانٍ وأفكارٍ وتصوّرات. فالمؤاخاة على الحبّ في الله من أقوى الدعائم في بناء الأُمّة الإسلامية، ولذلك حرص النبيّ (صلى الله علیه وآله وسلم) على تعميق هذا المعنى في المجتمع المسلم الجديد، فقال رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم): «إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلّا ظلي». فبالحبّ في الله أصبحت المؤاخاة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال، لا كلمة تنطق بها الألسنة، ومن ثمّ كانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثلة.
من القيم الإسلامية التي يريد الله تعالى للمسلمين أن يأخذوا بها في حياتهم الاجتماعية، لاسيما في علاقة بعضهم ببعض، أن يحترم المسلم أخاه المسلم وأن يعزّه ويحفظ حقّه، مهما كان الاختلاف في الدرجة الاجتماعية بين المسلمين. من المهم أن تكون إنسانيتنا وإسلامنا هما الأساس في احترام بعضنا البعض، فلا يجوز لمؤمن أن يحتقر مؤمناً لفقره أو لموقعه الاجتماعي، أو لأية حالة من الحالات، لأنّ الله تعالى يريد لنا أن نحترم إسلام المؤمن وإنسانيته، بحيث يشعر بأنّ إسلامه يمثّل قيمة كبيرة عند إخوانه المسلمين. فالإسلام دين المحبة والصفاء والألفة، فهو يشيع مبدأ الأخوة الإسلامية لتذويب الفوارق العرقية والإقليمية والمادّية، فتسمو على كافة الروابط الأخرى من خلال التأليف بين القلوب. نحن في حاجة دائمة إلى التفتح والإشراق في جو دافئ من المحبة والتعاون لبناء المجتمع على أساس المودّة والرحمة والتعاون على البرِّ والتقوى.
لابدّ من العمل لتشكيل المجتمع المتسامح والركون إلى العقل والتفكير الواعي السليم لتأسيس مجتمع العدل والسلام والاعتراف والقبول بالآخر والعمل المشترك من أجل بناء الوطن ووحدته وسلامته وأمنه ومستقبله. والإنسان عندما ينطلق في حياته الاجتماعية، فإنّ لسانه هو وسيلته للانفتاح على الآخرين في مشاعره وعواطفه وأحاسيسه وفي حاجاته وحواراته وجدالاته وفي دعوة الآخرين إلى ما يؤمن به. أراد الله تبارك وتعالى للناس عندما يتحدّثون ويتحاورون أن يدرسوا كلماتهم وأن يحترموا الآخرين ولا يسيئوا لهم، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسناً) (البقرة/ 83).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق