• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

وقاية المجتمع بإرشاده

وقاية المجتمع بإرشاده

◄يعتنقُ الإنسانُ الإسلام طواعيةً وباختياره بعد أن يعرف العقيدة التي بُنيَ عليها هذا الدين، ثمّ يُقبِلُ بعد ذلك على تعلّم شرائعه وأحكامه وآدابه.

والإيمان الحقّ هو الذي يكون عن حرّيةٍ واختيارٍ واقتناعٍ ومعرفة الدليل. وقد تجدُ بعض مَن أسلَمَ يسارعُ إلى دعوة غيره إليه شكراً لله تبارك وتعالى، الذي هداهُ للدين الحقّ، ورغبةً في جَلبِ الخير للناس. وهذا المَسلَكُ من هؤلاء محمودٌ مُثابٌ عليه عند الله تبارك وتعالى يدخل في عموم قول الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا) (فصِّلت/ 33)، كما يدخل في عموم قول النبيّ (ص): "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمرِ النِّعَم" (3009، فتح الباري).

ونجد فيما نجدُ فئةً من الناس مُنغَلقَةً عن غيرها، منطويةً على نفسها، تكفي غيرها خَيرها وشرَّها. ولئن كان في كفِّ الشرّ عن الغيرِ خيرٌ للإنسان، فإنّه لا يُقبلُ للإنسان أن يكفَّ خيرَهُ عن غيره.

وقد يكون كفُّ الخير عن الناس بدافع الخوف والضعف والشعور بالضعة؛ وهذه حججٌ واهيةٌ لا تحولُ حقيقةً دون أن يبذلَ المرءُ معروفَهُ وخيرَهُ.

وأعظمُ خير تَهديه للناس أن تسعى لهدايتهم إلى الدين، وتُرشدَهُم لما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة بأمرهم بكلّ معروف، ونَهيهِم عن كلّ معصيةٍ. ففي ذلك نفع للناس بتشجيعهم على فعل كلّ عمل محمود، وتجنيبهم كلّ عملٍ مذمومٍ؛ فيَصلحُ المجتمع، ويصفو من عوامل الفساد.

قد يستجيب الناس للنصح والإرشاد بيُسر وسهولة، وقد لا يستجيبون إلّا بعد لأي وتربّص ومماطلة، وقد لا يستجيبون أبداً.. وهذه المواقف لا تثيرٌ إشكالاتٍ ذات أهمية.. ولكن ما يهمّ هو موقفُ الذين يعاندون ويصرّون على مواقفهم، حيث يمكن لهؤلاء أن ينالوا بالأذى كلّ مَن حاول هدايتهم ونُصحَهم وردعهم عن غيِّهم. وردُّ الفعل لهؤلاء ليس جديداً طارئاً؛ فإنّ تاريخ الدعوة إلى الله تعالى مليءٌ بأمثال هذه المواقف من الحُكّام والملوك والأغنياء والعظماء الذين ردّوا على الهداية بأقسى أنواع الوحشية والغلظة.

وهذا ما يدعو البعض إلى الإحجام عن دعوة الغير ووعظهم وإرشادهم خشية أن ينالهم أذىً أو سوء، والبعض الآخر يحجم عنه حرصاً على مكاسب دنيوية كأن يخشى أن يُفصلَ من عمله أو تُصادر حرّيته.. وهؤلاء وأولئك على خطأ جسيم وفي حرمان من الأجر عظيم لأنّ أحدهم لو قارن ما أعدَّ الله تعالى له من الأجر العظيم على هداية الغير وما يبذله هو من جُهدٍ وعملٍ أو ما يُضحّي به من راحة ومتاع ومال لهانَت عليه هذه التضحيات أمام ما سيحصل عليه من ثواب الله تعالى. ومن هؤلاء المقصِّرين في حقّ أنفسهم وفي حقّ دينهم فئةٌ تعلِّل إحجامها عن دعوة غيرها بحججٍ واهيةٍ تنسبها إلى الدين جهلاً به؛ فإذا قيل لأحدهم: أما ترى ولدك أو جارك أو فلاناً تعرفه على غير ما يُرضي الله عزّوجل؟ .. تلا عليك قول الله تبارك وتعالى: (يا أيُّها الذينَ آمنوا عليكم أنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إذا اهتَدَيتُم) (المائدة/ 105).

عن قيس بن أبي حازم، قال: قرأ أبو بكر الصديق هذه الآية (يا أيُّها الذينَ آمنوا عليكم أنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إذا اهتَدَيتُم)، قال: إنّ الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، ألا وإنِّي سمعت رسول الله (ص) يقول: "إنّ الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه – أو قال: المنكر فلم يُغيِّروه – عمَّهُمُ الله بعقابه" (304، صحيح ابن حبان، ص539/ 1).

وقد أنزل الله تبارك وتعالى قوله عزّوجل: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال/ 25) وقد حدث في غزوة أُحُد أنّ بعض الصحابة (رضي الله عنهم) خالفوا أمر النبيّ (ص)، فعاد شؤم المخالفة على المخالفين وعلى غيرهم ممّن لم يخالف على السواء؛ وفي هذا تربية للأُمّة بكامل أفرادها؛ أن لا ينغلق الفردُ على نفسه، ويحصر اهتمامه بذاته وإنّما عليه أن يكون عنصراً فاعلاً في مجتمعه، يجلبُ له الخير ويُبعدُ عنه الضرر لأنّ هذه الإيجابية الاجتماعية هي التي تحقق تقدُّم المجتمع، وتبعد عنه الأخطاء وتَقيهِ المصائب. وقد سُئِلَ رسول الله (ص): أنَهلَكُ وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثُرَ الخَبَثُ" (3348، فتح الباري).

وقد أشار هذا الحديث النبوي إلى مسألتين هامّتين على الصعيد الاجتماعي:

الأولى: أنّ واجب أفراد المجتمع أن يعملوا على صيانة مجتمعهم من عوامل الفساد والانحراف، ولا يصحُّ أن يبقى الناس اتّكاليين أو لا مبالين.

الثانية: أنّ الخراب والدمار الذي يصيبُ مجتمعاً، ما له أسبابٌ، كما أنّ التقدُّم والتطوُّر والرخاء له أسباب، وكما أنّ عوامل البناء والإزدهار والخير يعمُّ نفعها على الجميع فكذلك عواملُ الهدم والفساد يعمُّ ضررها على الجميع كذلك.

والمجتمع الذي يمضي في غيِّه وجهله وفساده، ولم يتوافر فيه من يُصلح ويُرشد ويحذِّر، يستحقّ مقت الله، وغضبه، وانتقامه. وليس بالضرورة أن يقتصر الانتقام على الآخرة، فقد يكون كذلك في الدنيا لكثرة الفساد المنتشر، وردعاً لمجتمعات أخرى عن التردي في حمأة الرذائل.

وإذا ما استوجب مجتمعٌ ما عذاب الله وانتقامه، فإنّه لا يحول أي شيء في الوجود عن نزول عذاب الله تبارك وتعالى.

ومن الأمثلة على ذلك ما تتعرّض له بعض الدول من الأحداث المدمِّرة سواء كانت طبيعية كالزلازل والفيضانات والأعاصير والجفاف، أو كانت اصطناعية كالتلاعب في البورصات والاعتداء بالجيوش والأسلحة الفتاكة على الشعوب والأُمم المستضعفة.

والحقيقةُ القائلة إنّ البلاء النازل من الله تبارك وتعالى لا يُردّ ولا يُقاوم، قبل أن تظهر واقعاً ملموساً عند العرب، نزلت قرآناً مدروساً في أمثال قول الله تبارك وتعالى: (وإذا أرادَ اللهُ بِقَومٍ سُوءَاً فلا مَرَدَّ لَهُ وما لَهُم مِن دونِهِ مِن والٍ) (الرعد/ 11).

وأمّا في الواقع الملموس، فما نسمعُ وما نشاهدُ عمّا تفعله الأعاصير والزلازل والفيضانات من الكوارث التي لا يستطيع الإنسان حيالها أن يفعل شيئاً دليلٌ مشاهدٌ على أنّ الله تعالى إذا أراد بقومٍ بلاءً فلا يستطيعون له دفعاً.

إنّ مقاومة عذاب الله تبارك وتعالى وانتقامه ليس في وُسع البشر جميعاً، بل ليس في وسع الخلق جميعاً أن يردّوه إذا نزل. ولكن ما يقدر عليه الناس أن يقوا أنفسهم من هذا العذاب. وهذه الوقاية تتجلى في تغيير الأنظمة الفسادة، والعادات الخبيثة، والمظاهر المنحرفة المستشرية في المجتمع، وإبدالها بمظاهر الإصلاح، والتقوى، وعمل الخير والعادات الحسنة والأخلاق الفاضلة.

إنّ الإنسان إذا ما فعل معصيةً قد يُنزلُ الله به بلاءاً من عنده تربيةً له وردعاً عن الاستمرار في طريق الشرّ. وإذا ما شاعت المعصية في مجتمع من المجتمعات، فقد يَنزلُ بأهل ذلك المجتمع كلّه بلاء من عند الله تعالى ينالُ العُصاة وغيرهم على السواء. أمّا العصاةُ، فلارتكابهم ما نهوا عنه، وأمّا غيرهم فلتقصيرهم في وعظ العصاة وردعهم عن غيِّهم؛ فكان من ضرورات وقاية المجتمع وسلامته من أن تنزل به آفاتٌ لا يمكن ردُّها أن يتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر.

وإذا ما أعرضَ الناس عن الرجوع إلى الحقّ وحاولوا أن يتخلّصوا مما هم فيه من البلاء، دون أن يبحثوا عن الأسباب التي جلبته عليهم فيكون حالهم كحال مَن يريد أن يقي نفسه من الطوفان بالتمسك بأعواد الثقاب.

قال الربُّ تبارك وتعالى: "وعزّتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من قريةٍ ولا أهل بيتٍ كانوا على ما كرهت من معصيتي ثمّ تحوّلوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلّا تحوّلت لهم عمّا يكرهون من عذابي إلى ما يحبّون من رحمتي" (تفسير ابن كثير، ص523/ 2).

اللهمّ أصلحنا وأصلح بنا، وأصلح أبناء أُمّتنا، وحبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وحوِّل حالنا إلى أحسن حال بفضلك يا كبير يا متعال.►

ارسال التعليق

Top