أخذ الحسين (ع) ومَن معه جسداً مضرجاً بالدماء تحطمت فوقه أجراس الموت تاركاً وراءه انحناءة المجد وقناديل الخلق في أبهى أبراد الكرامة، وعرجت روحه مسافرة إلى أرواح بني آدم خالدة ما شاء الله لها من الخلود تملأ حكايانا وتعيش في أفئدتنا مدللة حتى عند صغارنا ممن لم يعرف من الإسلام إلا الحسين (ع).
ومذ كنت طفلاً رأيت الحسين
ومذ كنت طفلاً رأيت الحسين
ومذ كنت طفلاً عرفت الحسين
مناراً إلى ضوئه أنتمي
ملاذاً بأسواره أحتمي
رضّاعا وللآن لم أفطم
ذكرى كربلاء مزجت بين العِبرة والعَبرة، بين الحديث والمأساة، بين الفكرة والمعاناة، بين قوة الأدب ورقة الإنشاد، بين حماسة الأسلوب وامتلاك العاطفة.
في صحراء كربلاء محمد (ص) يطلب ماء فلا يسقى! محمد الذي يساوي: "حسين مني وأنا من حسين" يقف يصلي فتنساب إليه سهام الحقد من جيش يساوي:
لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل
أراد الحسين أن تُعرف عظمة محمد (ص)، وأراد عمر بن سعد أن تتجلى حقيقة خط يزيد، من تحت مجهر كربلاء واتضحت الرؤية من جهة والعظمة من جهة أخرى، ومازال الوضوح يقوى حتى هذه اللحظة في تأريخ الدنيا دون وعي من الطغاة.
سألني ذات يوم أحد الشباب بلغة هادئة حين اطمأن إلى رحابة صدري ليبوح بما في نفسه قائلاً: لماذا نبكي، ولماذا نضرب الصدور، ولماذا تتواضع الكبرياء في لحظات التفاعل التعايش الوجداني، فتكبر ألف شهقة وألف حسرة من أفواه تنادي يا حسين.
لماذا لم نجعل الحسين فكرة ونظرية؟ وحركة تصحيحية في مسيرة الأُمّة؟ أليس هذا هو الأسلوب الأنجع المتناسب مع رغبات بعض أهل العصر؟
وخالجني الوهم أنّ هذا الشاب يتكلم من وحي ما تلقاه مغالطاً لفطرته وخارجاً عن ذاته التي عاد إليها بعد أن عرف أنّ المأساة والمعاناة أمر لابدّ منه.
قلت له: لماذا لم يشرع الله تعالى الإسلام كنظرية وفكر كما ذكرت دون أن يدخل جانب المعاناة والخشوع في كثير من أحكامه؟
ألا ترى إمكان أن يقول المشرع طالعوا أحسن المقالات عن الصوم، وحاضروا فيه، ودونوا دراسات عظيمة، ويكتفي بحالة التصور عن الممارسة الفعلية للصوم؟
الجواب نعم، إنّه ممكن، إذن لماذا طلب منا الإمساك لفترة معينة، أليس لأنّ للمعاناة التي يخوضها الصائم دخلاً في بناء الشخصية.
من الممكن أن يكون أداء الحج بإسلوب آخر، مثلاً يأتي الحجيج وينظرون إلى الكعبة الشريفة ويتزاورون فيما بينهم، ويزدحمون في سفرتهم السياحية في مواطن التأمل وصياغة الفكرة دون أن تكون هناك مشقة ومعاناة قد تصل بالإنسان أحياناً إلى حد الأذى.
وأعود لأقول إنّ الله مزج بين التحرك الفكري للتعرّف على الهدف وممارسة المعاناة والتوكأ على عصا المشقة، لتسمو الروح الإنسانية إلى عالم البناء وترتبط الشخصية الإسلامية مع خالقها برباط الحب الفطري الذي أحكمه الإخلاص من جراء المعاناة.
قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...) (الحديد/ 16).
عبّر القرآن الكريم عن المعنيين (الذين آمنوا)، فلماذا يطالبهم بأن تخشع قلوبهم؟
ألا يثير هذا المشهد تساؤلاً؟ كيف بعد الاعتراف بإيمان قوم أن يُطالبوا بأن تخشع قلوبهم وكأن هناك أمر فوق التصور الإيماني وهو مرحلة الخشية والخشوع.
الجواب نعم، (الذين آمنوا) هم الذين فهموا الإيمان النظري (الله واحد، والنبيّ صادق، والقرآن كتاب الله، والجنة حق...) ويريد الله منهم أن يكللوا هذا الاعتقاد بالتفاعل القلبي والاندماج العاطفي، والخشوع أمام عظمة (الله واحد، الجنة حق) ولولا الخشوع لم يكن للإسلام النظري أثر في بناء الشخصية.
كربلاء كذلك، النبيّ (ص) يبكي علي الحسين كما ذكرت مصادر السُّنّة والشيعة، ليشفي على البكاء مشروعية وليقل لنا:
اعرفوا الحسين فكراً وعاطفة، إذ لا يمكن للفكر وحده أن يرسم الخلود، ولا العاطفة وحدها أن تشق الطريق إلى البقاء، فالحسين إذن عِبرة وعَبرة.
الحسين الإمام المعصوم هو الذي أوجد العنصر المأساوي في ملحمة الطف، ليس لغرض خدمة الذات وإنما علماً منه أنّ المأساة طريق يعانق الهدف في التوجه الإصلاحي النظري، فقدم الطفل الرضيع مثلاً يرفرف على يديه من أجل أن تسبّح الملائكة بروعة الفداء من أجل الإسلام.
وهكذا وجدنا أنفسنا في ميدان القتال نرهب كل قوة ويخافنا كل (يزيد) من خلال الحب والتفاعل الوجداني، فبكينا وقلنا لا يكفي حيث بلغت الدرجة إلى حالة الذوبان والانصهار من خلال الانشداد العاطفي والفكري وبُنيت الشخصية الولائية، ولطمنا وقلنا لا يكفي وحملنا السيوف لتكبر (هيهات منا الذلّة)، ونهتف يا حسين لنتوضأ بدم الشهادة ونقدم الشهداء، ولا زلنا نقول قليل حتى تحول كل واحد منا إلى صرخة تبدأ من الولادة ولا تنتهي بالموت.
أقول في قصيدة لي:
أنا ذاتٌ تقطعت حرقاً
وأناشيد كلما عزفت
وعيون أذابها ألم
وأنا صرخة الجراح بها
ووريدي بكربلاء دم
وبقايا يلمها الغضب
يستفيق الورى ويضطرب
رب باك دموعه كذب
يسجد السيف ثمّ ينتحب
يعبر المجد حين ينسكب
من خطبة الإمام الحسين (ع):
... أما بعد، فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإنّ الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل.
ألا ترون إلى الحق لا يعط به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله؟!
فإنِّي لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما.
الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.►
المصدر: مجلة الغدير/ العدد 24 لسنة 2000م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق