• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قواعد الاحترام

أسرة البلاغ

قواعد الاحترام

في هذا الموضوع نستهل بعض قواعد الاحترام من خلال التجربة الإنسانية عبر التاريخ البشري على هذه الأرض، ومن خلال استلهام تعاليم القرآن والسنّة المطهَّرة، ومن خلال ما تعارفت عليه الأُمم من أنّ ثمّة مشتركات محترمة، كما في التعبير عن (الامتنان والشُّكر على الصنيع)، و(الإصغاء بانتباه)، و(تقديم المساعدة)، و(تفهُّم المشاعر والتعاطف ومواساة الآخرين)، واحترام الخصوصيات الشخصية والدينية والمذهبية والقومية، واحترام الملكية العامّة العائدة إلى الشعب ككلّ، وليس لأبناء منطقة معيّنة، أو فئة خاصّة، أو شريحة محدَّدة، والاعتذار عن الخطأ وطلب المسامحة، وإلى غير ذلك، ممّا يندرج تحت واحد أو أكثر من القوانين الآتية:

 

1- (احتَرم) (تُحتَرم)!

هذه القاعدة الذهبية، أو القانون الكلّي العام، تستند إلى حقيقة أنّ الاحترام يجتذب ويجرّ إلى مزيد من الاحترام، فكما تُحبّ أن تُحتَرم من قبل الغير، لابدّ أن تَحترم الغير، وذلك من خلال الثناء على أعماله المجيدة، وأخلاقه الحسنة، ومواقفه الكريمة، ونتاجاته النافعة، ومن خلال تقدير نقاط ضعفه، فلا تُحمِّله فوق ما لا يحتمل، حتى وإن رأيت أنّك أعلى منه بدرجة، إذ أنّ الاحترام يقتضي أن ترفعه إليك درجة!

وليس من الاحترام في شيء، أن تجامل على حساب دينك، وشريعتك، وأخلاقك، إذ أنّ (المجاراة) غير (المداراة)، هناك مسايرة على الخطأ والقبيح والمُسيء، وهنا احترام لنقاط الضعف، والاعتراف أنّنا جميعاً خطّاؤن، وأنّ من مقتضيات السلم أو التعايش المجتمعي أن يقبل كلٌّ منّا الآخر على أنّه ناقص ومُعرَّض للسقوط والفشل، وأنّه يحيا ظروفاً خاصّة، أو قادم من بيئة ضاغطة، أو مُتخلِّفة، على أن نعمل على مساعدته لتجاوز بعض ضعفه بما نمنحه من نقاط قوّتنا، ومنها (احترامنا) له، ولو أنّ طبيباً قَرَّع أو عَنَّف مريضاً جاء يستنجده ليجد له علاجاً لمرضه، فإنّ المريض حينئذ سيعاني من مشكلتين: مشكلة مرضه، ومشكلة عدم احترام طبيبه له، وقد تُعقِّد الثانية الأُولى، ولذلك لا نسأل: لماذا لم يحترمني فلان؟ نسأل أنفُسنا: لماذا لم نحترمه؟ أو: لماذا لم نحترم أنفُسنا أوّلاً.. الاحترامُ مُبادَرةٌ! ومُبادَأة!

2- الاحترامُ تلقائيٌّ وليس إملائياً:

لا يمكنني أن أُطالب الآخرين باحترامي بسن قانون معيّن، أو بالقوّة والإجبار والإكراه، ذلك أنّ الاحترام ينبعُ من ذات الإنسان المُحتَرِم لغيره، فالابن لا يُجبَر على احترام أبيه، بل يَتعلَّم الاحترام من حبّ أبيه، وإنعامه عليه، وتربيته وإصلاحه له وتقديره لضعفه، وعنايته به، ومن احترام الأب لخصوصيات الابن، ومن احترام الزوجين بعضهما لبعض، إذ على مدى احترام (الأُمّ) الزوجة لــ(الأب) الزوج، يزداد منسوب الاحترام الأُسري.. نعم، يحتاج الطفل أو الولد أن يُمرَّن على تقاليد وآداب الاحترام للقريب والغريب والجار وأبناء المحلّة، وأن يُقدِّم احترامه للكبير جدّاً أو عمّاً أو خالاً، أو بائعاً، وما إلى ذلك، والتعليم هنا ليس جبرياً إملائياً وإن كانت جنبةُ التلقين فيه إيحائية بضرورة مراعاة التهذيب الاجتماعي العام.

3- الاحترام تنمويٌّ:

الاحترام يجتذب الاحترام، ويزيد فيه، وكلّما احترم إنسانٌ إنساناً، لأي اعتبار من الاعتبارات مارّة الذكر، فإنّه سيزرع احترامه في نفس الإنسان المُحتَرم، وإنّما عبَّرنا عنه بأنّه (تنمويّ) لأنّ أحد أبرز علامات أو سمات التنمية البشرية اليوم هو هذا الاحترام المُتبادَل بين الفُرقاء والأصدقاء والأقرباء وأبناء الإنسانية عموماً الذين يجدون في احترام الغير لهم دليلاً على إنسانيّته، ومستوى تهذيبه، مثلما يشعرون بقيمتهم المحترمة من قبل الذين يحترمونهم، وبذلك فإنّ الاحترام قابل للتنمية والاتّساع والزيادة، بل قابل لأن يحلّ محل (العصبيات) و(العنصريات) و(الفئويات) و(الحزبيات) الضيِّقة، و(المذهبيات) و(الطائفيات) و(العشائريات) القبلية، وغيرها من صنيع التأطير الإنساني أو التحجيم الأخلاقي والسلوكي.

4- الاحترام له مواضعُه المُحتَرمة:

إنّ دعوة هذا الكتاب إلى احترام الآخر المختلف، هي دعوة قرآنية نبويّة، عقلائية، وحضارية كذلك، وإنسانية عامّة أيضاً؛ لكنّها ليست إطلاقية، أي إنّ للاحترام مواضعَه التي ينبغي أن يُعبَّر فيها عن الاحترام، وإلّا فلا يُصحّ عقلياً وعُرفياً ومجتمعياً أن تحترم قليلي أو معدومي الأدب والعفّة، والمستهترين بالقيم والأخلاق، المصرّين على إساءاتهم، الذين يرتكبونها مع سبق الإصرار، أو الذين يمارسون الظلم والعدوان، أو الذين ينتهكون حقوق الناس ويبخسونهم أشياءهم، ذلك أنّ احترام هذه النماذج السيِّئة والمسيئة، سوف يدفعها إلى مزيد من (الاستهتار) و(التطاول) و(التعدّي) و(التحدّي) و(الإساءة) و(الشعور بالهيمنة)، بل يُشجِّعها على أن تستقطب أمثالها ممّن لا يجدون في اختراقات النظام المجتمعي أو الأدبي أو الأخلاقي أيّة غضاضة، وبذلك يكون احترام غير الجدير بالاحترام سبباً للتهتُّك والانجراف والتسيُّب، واعتبار كلّ فاقد للاحترام محترماً بحيث نضيع بين مَن هو مستحق للاحترام فعلاً، وبين مَن يُسبغُ عليه السَّفلة والمنحطّون والأجهزة القمعية والإعلامية الموجَّهة صفات المحترمين الذي هو عارٍ منها.

5- الاحترام هو الشخصية:

اختصارُ الشخصية أو تكثيفها في خصلة كبيرة وحميدة مثل (الاحترام) ليس اعتباطياً، ولا جُزافياً، فلو تأمَّلنا في طول وعرض مساحة الاحترام، لرأينا أنّ احترام الآخر في فكره، ورأيه، وعاطفته، وأخلاقه، وسلوكه، وإنسانيّته، ونظامه الذي اختطّه لنفسه، أو خُطِّط له من جهة سماوية أو أرضية، هو تعبيرٌ عن مقومات شخصية الإنسان المُحتَرِم لغيره، وهذا يحتاج إلى شيءٍ من الإيضاح:

إنّ الذي يرى في الإنسان الذي هو أصغر منه سنّاً وكأنّه (ابنٌ) له، يكون قد احترمه أشدّ الاحترام، وعزَّز ثقته بالمجتمع الذي ينتمي إليه، والذي يتعامل مع الآخر الأكبر سنّاً منه على أنّه بمثابة (أب) له، يُكرِّمُ الشيخوخةَ الصالحة، ويرعى تجربة المتقدِّمين عليه، ويحفِظ للناس مقاماتهم، والذي يحترم الإنسان الذي هو في مثل سنّه أو مقارب لها، يعطي انطباعاً على أنّ احترام الإنسان المماثل في العمر هو احترامُ الأخ لأخيه.. وفي كلّ هذه الحالات الثلاث، فإنّ شخصية الإنسان المُحترِم للصغير والكبير والمساوي، تُعبِّر عن مكنوناتها بأنّها إنسانية بامتياز، وأنّ موجبات الاحترام عندها: (مراعاة الضعف عند الصغير والكبير) و(العناية بمن سبق للعلم والإيمان والعمل)، والاهتمام بالرفيق الذي يؤاخيه بالمحبّة والتقدير.

بل، إنّ اتّهام الإنسان لنفسه وتبرئة ساحة الآخر صغيراً، أو كبيراً، أو مماثلاً، كأن يقولُ عن الكبير هو أفضل منِّي لسابقته في خدمة الناس والدِّين والاختصاص والعلم، وعن الصغير بأنّه أفضلُ منه لأنّه لم يرتكب ما ارتكب من أخطاء وخطايا وقع فيها الشخص الذي يحترم صِغَر الصغير، وعن المماثل بأنّه لا يعلمُ عنه إلّا حُسن الظاهر.. أمّا معرفته بشخصه وشخصيّته هو، فإنّه أدرى بباطنه وما ينطوي عليه، فهو في يقين من معرفته بنفسه؛ لكنّه في شكّ من احتمال أن يكون الآخر أقلّ احتراماً، وفي جميع الأحوال فإنّ من قواعد الاحترام هو (خفضُ الجناح) و(استشعار الدونيّة) لا المذلّة، بل الشعور بالتقصير وارتكاب الأخطاء، في قبال حُسن الظنّ بالآخر.

يضافُ إلى هذا وذاك، أنّ الإنسان - في لحظة غرور - قد تخالجهُ نفسه بخواطر التعالي والإعجاب والفوقية؛ لكنّه إذا (ألجمَ) هذه الخواطر، واعتبر أنّ احترام الناس له دليلٌ على حُسن أخلاقهم، وعلوّ تهذيبهم، لا لأنّه إنسانٌ مُحتَرمٌ بذاته، أو لعلمه، أو مقامه، أو إنجازاته، وأنّ جفاءَهم عنه سببٌ لسوء تعامله وقلّة احترامه لهم، ممّا يستدعي إعادة النظر في سلوكه وتقييمه لتجربته المجتمعية مع الآخرين، وأن يراجع أخطاءه معهم، ويتراجع عنها، لكي يحظى باحترامهم من جديد، إذ إنّ من قواعد الاحترام أنّه لا يبقى ملازماً للشخص مدى الحياة، إلّا إذا كان الإنسانُ حريصاً على احترام ذاته، وتقويمها والمحافظة على استقامتها، بل لأنّ الآخرين لا يهبون الاحترام (مجاناً)، وإنّما هو هدية، أو مكافأة، أو جائزة، أو شهادة على حُسن سلوك الإنسان المحترم، فهم يحترمونه ما بقي مُحتَرِماً لنفسه، فإذا هو (أهان) نفسه، أو أذلّها، أو وضعها في مواضع غير محترمة، أو قلَّل من قيمتها وشأنها، فإنّه يكون قد حكم على نفسه بخلع الاحترام ورفعه عنه.

بقي أن نقول، بأنّ حاجة الإنسانية المتحضِّرة اليوم إلى (الاحترام) أشدّ من حاجتها إلى (الحبّ)، بل إنّ الحبّ يأتي نتيجة طبيعية لكلّ احترام، والتجربةُ أكبر بُرهان.

ارسال التعليق

Top