إبراهيم شرقية فريحات
قيل إن أجمل يوم بعد سقوط نظام دكتاتوري هو اليوم الأول الذي يلي ذاك السقوط. وقيل أيضاً إن الإطاحة بنظام قمعي مستبد يمثل فقط الحلقة الأولى -وربما تكون الأسهل- في مسلسل قد تطول حلقاته، وفي بعض الأحيان قد لا يقل دموية عن الإطاحة بالدكتاتور نفسه. هذه المقولات ومثيلاتها تشير بجلاء إلى حجم التحديات التي تواجه عملية إعادة البناء التي تعقب دحر الدكتاتور كالأمن وتوفير فرص العمل ومحاربة الفساد والانتخابات وإعادة صياغة الدستور وغيرها. وفي خضم هذا التنافس ما بين أولويات المرحلة الجديدة تبرز مسألة أخرى لا تقل أهمية عن مثيلاتها، لا بل تشكل حجر الزاوية لمستقبل الدولة، ألا وهي الكيفية التي يتم بها التعامل مع الماضي.
فالأنظمة القمعية أثخنت قتلاً في شعوبها وانتهكت لعقود من الزمن المبادئ الأساسية للعقد الاجتماعي الذي من المفترض أن يحكم علاقتها بشعوبها، وعانت جموع كبيرة من شعوبها من أشكال مختلفة من الاضطهاد والقتل والتعذيب والسجن.
والآن وقد دحرت بعض هذه الدكتاتوريات في عدد من الدول العربية يبرز السؤال الملح حول آلية التعامل مع انتهاكات الماضي: الحساب، والعقاب، والانتقام، والعفو، والتسامح، أم ماذا؟ وللإجابة على هذه التساؤلات برز مفهوم العدالة الانتقالية لمساعدة المجتمعات التي تمر بهذه المرحلة لتساعدها على الانتقال السلمي لمرحلة ديمقراطية تعددية يسودها الاستقرار السياسي وتبتعد بها عن الانزلاق في أتون حرب أهلية تأتي بويلات أعظم من تلك التي جلبتها الدكتاتوريات السابقة.
فالعدالة الانتقالية إذاً هي مجموعة الأساليب والوسائل التي يتم استخدامها لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان خلال حقبة سياسية معينة سواء كان ذلك بالطرق القانونية أو غيرها، والتي تساعد في النهاية على التأسيس لمرحلة سياسية جديدة يسود فيها القانون والاستقرار السياسي. مثل هذا التعريف ينطبق بالأساس على دول الربيع العربي وبالتحديد تونس ومصر وليبيا واليمن.
وعليه فإن هذه الدول مطالبة الآن وقبل فوات الأوان بصياغة إستراتيجية واضحة المعالم لعدالة انتقالية تعيد الحقوق إلى أهلها وتخرج الممارسات الظلامية التي ارتكبت أبان الحكم الدكتاتوري إلى حيز الوجود الجمعي، الأمر الذي سيشكل بدوره صمام الأمان لعدم تكرارها في المستقبل.
لا توجد وصفة سحرية للعدالة الانتقالية يمكن تطبيقها على كل دول الربيع العربي التي تعيش مرحلة تحول سياسي (تونس ومصر وليبيا واليمن) بدون استثناء، ولكن توجد هناك عناصر أساسية يمكن أن تقود لبناء إستراتيجية شاملة للعدالة الانتقالية في هذه البلدان، وأهمها:
أولاً، لجان الحقيقة: لا أحد يعلم بالتحديد حجم ومستوى الانتهاكات التي ارتكبت أبان الحكم السابق، ولهذا يصبح من الضروري تأسيس لجان مستقلة هدفها الأساسي الكشف عن حقيقة ما حدث على سبيل المثال خلال 42 عاماً تحت حكم القذافي.
الكشف عن الحقيقة ضروري لعدة أسباب أهمها مساعدة الوعي الجمعي للوصول إلى حقيقة ما جرى من انتهاكات ومنع حدوثها في المستقبل وإنهاء حالة التشرذم والجدل بين الشرائح المجتمعية المختلفة حول هذه الانتهاكات. أحد القيادات الإسلامية في تونس والذي عانى أيام نظام بن علي أخبرني في أحد مقابلاتي البحثية أن أهم جانب له في التعامل مع الماضي هو "معرفة حقيقة ما حدث -أي إخراجه من الزوايا والملفات المظلمة إلى الوعي الجمعي– وضمان عدم تكراره، وليس بالضرورة القصاص من مرتكبيها".
كذلك تعمل لجان الحقيقة على التوثيق لمرحلة مهمة في تاريخ المجتمع حتى يمنع تزويرها أو إعادة كتابتها مستقبلاً. إحدى القضايا الحساسة التي تواجه العدالة والاستقرار في تونس اليوم هي إمكانية الكشف عن أسماء البوليس السري (المخابرات) أيام حكم بن علي وما له من فائدة في إنصاف المظلومين والذين عانوا بفعل تقارير البوليس السري، ولكن وفي نفس الوقت فإن الكشف عن أسمائهم سيتسبب في مشاكل اجتماعية جمة لا حصر لها، ولهذا فإن وجود لجان للحقيقة سيساعد على التعامل الأمثل مع مثل هذه المعلومات.
يشار إلى أن مشكلة الكشف عن أسماء البوليس السري كانت من أهم التحديات التي واجهت ألمانيا الشرقية حيث واجهت جيشا من عملاء جهاز أمن الدولة (شتازي) بعد سقوط الشيوعية. بالإضافة لما تقدم فإن كشف الحقيقة يساعد ضحايا الانتهاكات على التصالح مع ذواتهم -عند معرفتهم حقيقة ما جرى- وغلق فصل مؤلم في حياتهم، الأمر الذي يساعدهم على المضي قدماً في حياتهم والتأقلم مع مرحلة جديدة بمتطلبات جديدة. تشكيل لجان الحقيقة أمر ضروري في المراحل الانتقالية، وهو أمر ليس محصوراً بدول الربيع العربي، فقد بلغ عدد لجان الحقيقة التي تم تشكيلها في العالم 40 لجنة حتى الآن.
ثانياً، المحاكمات: صحيح أن مبادئ العفو والتسامح ضرورية في أي مجتمع عانى ويلات الحروب والقمع والاضطهاد، ولكن ذلك بالتأكيد لا ينفي ضرورة إجراء محاكمات عادلة ضمن إطار القانون. هذه المحاكمات ضرورية ليس فقط عندما يتعلق الأمر بانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان ولكن أيضاً من أجل تعزيز مبادئ المراقبة والمحاسبة والمساءلة في مرحلة يستعد المجتمع فيها لطي صفحة مؤلمة في تاريخه والبدء بمرحلة بناء بأسس جديدة.
إن غياب مبدأ المحاكمات من الممكن له أن يؤدي إلى زعزعة الثقة في الدولة والقانون، وكما هو الحال في ليبيا يؤدي أيضا إلى انتشار العشوائية والارتجالية والأخذ بالثأر والانتقام وأخذ زمام المبادرة من قبل الأفراد في تحصيل الحقوق الفردية.
تطبيق مبدأ المحاكمات ساد العديد من الدول العالمية ودول الربيع العربي ليست بالاستثناء. والأمثلة زاخرة بهذا المجال مثل محاكمة نورنبيرغ لمجرمي الحرب النازيين في ألمانيا عام 1945، ومحاكمات يوغسلافيا السابقة لمجرمي الحرب سلوبودان ميلوسوفتش وردوفان كرادتش وراتكو ملاديتش، ومحكمة الجنايات الخاصة برواندا في عام 1994 لمحاكمة القائمين على أعمال الإبادة الجماعية من قبائل الهوتو والتوتسي، ومحاكمة تشارلز تيلور في ليبيريا، وغيرها الكثير.
ثالثاً، التعويض: عند الحديث عن التعويض يجب على الجميع بمن فيهم ضحايا الانتهاكات ورموز السلطة الجديدة الأخذ بالحسبان أن الكثير من الانتهاكات التي حصلت في الماضي لا يمكن بالضرورة استرجاعها، وهذا يعني أن على الجميع إبداء الجاهزية للحديث عن طرق أخرى يمكن لها التعويض قدر الإمكان عن مظالم الماضي.
وهذا يستلزم التعويض بشقيه المادي والمعنوي. على السلطة الجديدة توفير الفرص اللازمة لتعويض الضحايا وعائلاتهم مثل برامج إعادة التأهيل لمن قضوا فترات طويلة في السجون، والمنح الدراسية والرواتب الشهرية لمن فقد معيل أسرته على أيدي النظام البائد، وتوفير السكن لمن شرّد بغير وجه حق، وغيرها من التعويضات المادية كل حسب حالته.
وفي هذا المضمار فإن على السلطة الجديدة التفكير بحلول مبتكرة لتحديات صعبة خلقها النظام البائد. فعلى سبيل المثال، أصدر القذافي قانون 4 لعام 1978 الذي ينص على أن "البيت لساكنه" أي بمعنى أن جميع الملاك في تلك الفترة قد خسروا بيوتهم لصالح المستأجرين، وحيث إن من الصعوبة بمكان إعادة الأملاك لأصحابها الآن بدون إلحاق الضرر بالمستأجرين الذين بنوا حياتهم على هذا الأساس، فإن الدولة مطالبة بإيجاد حلول مبتكرة تنصف المستأجرين ولا تجحد حق المالكين.
ولا يقل التعويض المعنوي أهمية عن المادي حيث يأتي بأشكال عدة من ضمنها إعادة التأهيل النفسي، والاعتذار الشفوي والمكتوب، والاعتراف بما جرى في الماضي وتوثيقه، وإيجاد رموز تعبر عن معاناة ضحايا النظام وعائلاتهم مثل بناء نصب تذكاري لضحايا النظام، وتسمية شوارع أو أماكن عامة بأسمائهم، وإقامة متحف تجمع فيه صور وأسماء الضحايا، وغير ذلك مما يمت لتلك الحقبة بصلة. كذلك بالإمكان توظيف الفن والرياضة للتعويض المعنوي مثل إخراج أفلام تصف الحقبة الماضية وتظهر اضطهاد النظام ومعاناة الضحايا، وتنظيم دورات رياضية بأسماء رموز معينة، وغيرها.
رابعاً، الإصلاح المؤسسي: عندما يمارس نظام حكم القمع باتجاه معارضيه ويرتكب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان فعادة ما تكون مؤسسات الدولة متورطة بشكل أو بآخر، إذ لا يمكن لأفراد النظام القيام بمثل هذه الممارسات بمعزل عن هذه المؤسسات. عالمياً، احتلت الأجهزة الأمنية والشرطة والقضاء نصيب الأسد في هذه الانتهاكات، وليس من باب الصدفة حرق عدد هائل من ملفات أمن الدولة في مصر بعد سقوط النظام مباشرة. وعليه، فإن دول الربيع العربي مطالبة بالمباشرة فوراً بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والإصلاح المؤسساتي، فالمطلوب هنا هو تغيير بنيوي في جهاز الدولة وذلك حتى تمنع تكرار مثل هذه الممارسات في المستقبل.
تشكل هذه العوامل سمة مهمة من نوع العدالة الانتقالية التي تحتاجها دول الربيع العربي لمرحلة ما بعد سقوط الأنظمة. ويجب التنبه هنا إلى أن تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية والسمات الآنفة الذكر لا يتم بطريقة ميكانيكية جامدة، بل إن هناك العديد من المحاذير التي يؤدي الوقوع بها إلى حرف العدالة الانتقالية عن مسارها وتحولها من أداة تعمل على مساعدة المجتمع للانتقال إلى حالة الاستقرار والسلم الأهلي إلى حالة مجتمعية قائمة على الإقصاء والتهميش والتوتر وربما الحرب الأهلية. وبلغة أخرى فإن دول الربيع العربي مطالبة بأخذ التوصيات العامة التالية بعين الاعتبار عند صياغتها إستراتيجية ملائمة في هذا المضمار:
العدالة الانتقالية عملية طويلة وشاقة ومتعددة الأوجه، وعلى الجميع توخي الحذر وعدم القفز للنتائج بوقت مبكر جداً. كذلك فإن على ضحايا الانتهاكات وعائلاتهم عدم اليأس من تحقيق العدالة بل التزود بما يلزم من أجل خوض معركة جديدة لتطبيق العدالة في الوقت المناسب. فالجنرال الصربي راتكو ملاديتش الذي يعتقد بإشرافه على ذبح حوالي ثمانية آلاف من الرجال والصبيان المسلمين في مجزرة سربنيتشا في 1994 يقف اليوم أمام محكمة جنايات الحرب في لاهاي ليواجه مصير العدالة.
عدم تسييس العدالة الانتقالية والابتعاد عن الانتقام والالتزام بمحاسبة الجاني فقط في إطار القانون. فالتجربة العراقية زاخرة بهذا المجال حيث قام القائد الأميركي بول بريمر وسلطة الائتلاف المؤقت بسن قانون "اجتثاث البعث" الذي بموجبه تم استبعاد حزب بأكمله (البعث) من الوظائف العامة، الأمر الذي أدى إلى إقصاء فئة كبيرة من الشعب وتحول جزء منه لمحاربة الدولة عوضاً عن المساهمة في عملية البناء، وبذلك تعارض مع ركن أساسي للمصالحة الوطنية التي تقوم على التجميع والاحتواء، لا الإقصاء والتهميش.
تحقيق العدالة لا يقصد به الانتقام أو تسديد حسابات، حيث لم يقدم النظام الحاكم في العراق أجوبة للمشككين بتطبيق العدالة هناك و"دوافعها الانتقامية" وبالأخص لماذا كان من الضروري إعدام صدام حسين يوم العيد وفي الصباح بالتحديد! على دول الربيع العربي الاستفادة من دروس التجربة العراقية بهذا المجال، فلا يوجد حزب مذنب أو قبيلة مذنبة أو قرية أو مجموعة عرقية وغير ذلك.
تسييس العدالة الانتقالية في ليبيا مثلاً وإخضاعها لدوافع الانتقام سيؤدي بالضرورة إلى استبعاد قبائل القذاذفة والطوارق وبني وليد وسرت وتاغوراء وغيرها. من هنا يأتي دور لجان الحقيقة للكشف عما جرى وما يترتب عليه من حساب أو عفو على أساس فردي وليس جماعي.
على دول الربيع العربي أن تقرر فيما إذا كانت عدالتهم الانتقالية ستفضي إلى عدالة تصالحية أم عدالة عقابية. نعم، فعقاب مقترفي الانتهاكات يساعد بالأخص الضحايا على التغلب على جراحهم التي عانوا منها أبان الحكم البائد. ولكن بالمقابل فإن شفاء جروح المجتمع ككل ربما يتطلب عدالة تصالحية تمنح فيها الفرصة للمذنبين للاعتراف بذنبهم والتنازل عن كل الامتيازات التي حصلوا عليها خلال وجودهم في النظام البائد والاعتذار وطلب العفو.
هذه العملية ستمنح المذنب الفرصة لإعادة التأهيل بحيث يلعب دورا إيجابيا هو وقبيلته في عملية البناء والأهم من ذلك أن فرصة منح العفو تساعد الضحية أيضاً في التأقلم مع المرحلة الجديدة وربما بشكل أفضل من تلك التي يتم الحصول عليها من خلال العقاب.
من هنا تأتي أهمية لجان كشف الحقيقة مرة أخرى والتعويض المادي والمعنوي للضحية للمساعدة في الوصول إلى عدالة تصالحية وليس عقابية، ولا يغيب عن الأذهان هنا قول الرسول الكريم بعد فتح مكة "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وما لذلك من أثر في لمّ الشمل والبدء بمرحلة جديدة من الوحدة والبناء.
ارسال التعليق