(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر/ 21). إذا كان الله يريد للإنسان أن يذكره ليذكر نفسه، وأن يتقيه ليحصل على رضوانه في جنّته، فإنّ القرآن هو الذي يتولّى المهمّة في توعية الفكر والروح، فهو يطوف بالإنسان في رحاب آيات الله ومواقع عظمته، وفي آفاق المسؤولية في إطاعة أوامره ونواهيه، فالله أراد للإنسان الاستفادة من كلِّ مفردات الطبيعة الكونية وسننها الإلهيّة، في إقامة نظام الحياة على أساس الحقِّ، وحثَّ على إظهار مشاعر الخشوع والرهبة والخضوع أمامه، ممّا ينساب في الإحساس، وينفذ إلى العقل، ويلامس الكيان كلّه بمواقع الذكرى التي تبتعد به عن الغفلة، ممّا يمكن له أن يصوغ الإنسان صياغةً جديدة حتى يكون عبد الله، وإنسان المسؤولية الباحثة أبداً عن طاعته والهاربة كلّياً من معصيته.
وهكذا يريد الله أن يوجه اهتمام الإنسان إلى هذا القرآن ليقرأه ويتدبّره ويعيش مع مفاهيمه المتحركة في مضمون آياته، ليرى فيها ربّه، ويتعرّف إلى نفسه وإلى الحياة من حوله، ويعي دوره الكبير في خلافة الله في الأرض، فلا ينظر إليه ككتاب تتحرّك فيه الكلمات حسب المعاني اللغوية في كُتُب اللغة، بل يعيش معانيه من خلال الآفاق التي تنطلق إليها الروح في عمق الإيمان، فكان المثل الذي يوضح الصورة هو السبيل إلى إيجاد التأثير العميق الذي يمكن للقرآن أن يتركه في وجدان الإنسان الروحي.
وهذه بعض الآيات الكريمة التي تبعث الخشية: (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الحديد/ 17)، فينزل عليها الماء بعد جفافٍ طويل، فتخضر في هزَّة العشب، ونضارة الشجر، وزهو الورد.. وهكذا يوحي ذلك إلى الناس بأنّ الله يحيي العقول الميتة بفعل الجهل بالمعرفة، والقلوب الميتة بفعل الضلال عن الهدى والإيمان. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد/ 17)، عندما تفكرون في مضمونها من أجل الانفتاح على الحقِّ كلّه في مواقعه في حياة الناس، كما هو في مواقع الحقيقة البارزة في قدرة الله في الأرض، فينفتح للعقل أكثر من نافذةٍ على المعرفة الواسعة التي تضيء الروح والوجدان والحياة. (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (الحديد/ 16)، قد يكون هذا الحديث للمؤمنين الذين يستعجلهم الله للحصول على حالة الخشوع القلبي الذي يجعل كيان المؤمن كلّه خاشعاً له، في اهتزاز الشعور بالعظمة والنِّعمة في إيحاءاته بالمحبّة من جهةٍ، والخوف من جهةٍ أُخرى، حيث يمتزجان في كلِّ مشاعره وأحاسيسه وأفكاره، ليجعلا منه الإنسان المنفتح على الله الخاضع له.
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ)، بما فيه من عبرٍ وعِظاتٍ ووصايا ونصائح، ومفاهيم وأحكام، وترغيب وترهيب، وتعداد لمواقع عظمة الله في الكون، ولامتداد قدرته في خلقه، وهيمنته على الأمر كلّه، (عَلَى جَبَلٍ) بكلِّ ما يمثّله الجبل من جمود الإحساس لغياب الحياة في داخله، ومن صلابة الصخر في صخوره القاسية، ومن ضخامة الحجم الذي يطل به على الأُفق الواسع ليحجب الكثير منه في امتداد النظر، ممّا لا تستطيع الرياح أن تهزّ جبروته، ولا الزلازل أن تسقط قمته، ولكن هناك شيئاً يختلف عن عصف الرياح وخطورة الزلازل، يمكن أن يصدعه فيتشقق، ويثير الإحساس فيه فيخشع، وهو القرآن النازل من الله عليه لو قدر أن ينزله الله عليه كما أنزله على الإنسان، (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)، لأنّ طبيعة معانيه تؤثّر في العمق منه، بالرغم من الصلابة والضخامة والجمود الذاتي فيه، وإذا كانت هذه هي الحال مع الجبل، فكيف يجب أن يتمثّله الإنسان المملوء وعياً وشعوراً في انفعاله به في ما يعيشه من خشية الله، (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ)، في ما يستهدفه القرآن من أسلوب الأمثال الذي يعني تشبيه الأشياء ببعضها البعض، لإيضاح الفكرة، (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، ليكتشفوا من خلال الفكر شيئاً جديداً في المعرفة، وأفقاً واسعاً في وعي العقل والشعور.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق