◄يبرز الأخضر كأكثر الألوان بهجة للعين وراحة النفس.
هو لون الطبيعة ولون الخصب ولون النماء، ولون العنفوان. به نكون أكثر اكتمالاً، وانسجاماً، كما نكون أكثر توازناً مع أنفسنا ومع البيئة من حولنا.
يوحي الأخضر بالانبساط والانسيابية، لكنّه يطوي في تضاعيفه دلالات ومعاني من الثراء والتنوّع بحيث تجعله في مصاف الألوان الأغنى تعبيراً.
يحتل الأخضر مساحة هي الأكبر والأكثر اتساعاً في العالم؛ فهو لون الطبيعة، بكلّ التدرجات اللونية للأخضر المستقرة في أوراق النباتات وأغصان الشجر وسيقان الورد والفاكهة في طور النضج والحيوانات.. إنّه لون البيئة الأُمّ، في أكثر صورها عنفواناً وجمالاً وخصباً ونماءً، ما يجعله لون الحياة الصحّية والنضرة واليافعة، وغير الملوثة. كذلك، يعتبر الأخضر ثاني أكثر الألوان المفضلة لدى الناس، بعد الأزرق، فهو لون يوحي بالأمان، ويبعث على التوازن والانسجام.
علمياً، الأخضر هو اللون المُدرك بصرياً، الذي يثيره ضوء يتألف من طيف تهيمن عليه طاقة بطول موجي يتراوح بين 520 و570 نانومتراً (النانومتر وحدة قياس في النظام المتري تساوي واحداً على مليار من المتر). في نظام "الألوان الطرحيّة"، وهو النظام المتعلق بمزج الألوان والأصباغ والأحبار والألوان الطبيعية لخلق طيف من الألوان، لا يعتبر الأخضر لوناً أساسياً، إذ يتم "اختلاقه" من خليط اللونين الأزرق والأصفر. بناء على ذلك، يُصنّف الأخضر ضمن الألوان الأساسية المضافة. ومن المعروف أنّ الأخضر يحتل مساحة أكبر في الطيف الضوئي المرئي للعين البشرية مقارنة بمعظم الألوان الأخرى، كما يعدّ اللون الأكثر حساسية للعين، بحيث بالإمكان رؤية معظم درجاته، وهو ما يفسر اعتماده في مناظر الرؤية الليلية التي يستخدمها الجنود عادة في أماكن القتال المعتمة.
على أنّه أياً ما كان عليه تكوينه العلمي أو تركيبته، فإنّ آفاق الأخضر واستخداماته وتأويلاته الدلالية تتخطى طوله الموجي بما لا يُقارن.
- راحة واسترخاء:
لما كان الأخضر هو البساط الأكبر والأكثر امتداداً للطبيعة الأُمّ، من الطبيعي أن يكون هذا اللون هو الأكثر اقتراناً بالطبيعة وانعكاساً لكلّ ما تمثّله. من هذا المنطلق، ترى العديد من مصممي ومهندسي الديكور يستعينون بالأخضر كخلفية في تصاميمهم لإشاعة جوّ من الراحة في المكان شبيه بالراحة التي نتلمسها ونحن في حضن الطبيعة، بعدما ثبت أنّ الأخضر لون مريح للعين، بل تبيّن علمياً أنّه يُحسّن النظر. في الكثير من العيادات والمستشفيات، يشكّل الأخضر لوناً بارزاً في المكان، سواء في استخدامه في المقاعد أو في طلاء الجدران، أو حتى في رداء الجراحين في غرف العمليات، وذلك لمساعدة المرضى، المقبلين على الجراحة، للاسترخاء. كما أنّ الأخضر يرمز إلى الأمان والانطلاق، وهو ما يتضح في استخدامه في الإشارات المرورية في الشوارع كلون يعني الانطلاق الآمن وفي أعلام السباقات، التي ترمز إلى إشارة الانطلاق. من هنا برز تعبير "الحصول على الضوء الأخضر" كتعبير دارج ومتداول عالمياً، أي الحصول على الموافقة للانطلاق في عمل أو مشروع ما.
يميز الأخضر، كلون، العديد من أنواع الفاكهة والخضراوات، ومن المعروف أنّه كلما كانت الأطعمة التي نتناولها "خضراء"، أي قوامها الخضراوات الورقية أو تعتمد على ثمار الطبيعة في الأساس، كان ذلك أفضل للصحّة. تجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أنّ كلمة "أخضر" في اللغة الإنجليزية هي (Green)، وهي مشتقة من فعل (Growan) في الإنجليزية القديمة، الذي يعني (to grow)، أي ينمو. لذا اقترن الأخضر بالصحّة والنمو. وحين نشير إلى أحدهم بأنّ "أصابعه خضراء"، فهذا يعني أنّه كمزارع يتمتع بمقدرة فريدة من نوعها على جعل النباتات تنمو. ولما كانت الفاكهة النيئة أو غير الناضجة تماماً خضراء، فهذا يعني أنّها في طور النموّ. وينسب اللون الأخضر في النباتات بصورة رئيسية إلى مركب كيميائي يعرف باسم "الكلوروفيل"، وهو المركب المسؤول عن عملية التمثيل الضوئي (وهي عملية يتم فيها تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مركبات عضوية، خاصّةً السكريات، وذلك باستخدام الطاقة من ضوء الشمس).
كما النباتات في الطبيعة، هناك العديد من الحيوانات ذات اللون الأخضر أو تكيّفت مع الطبيعة برداء خارجي أخضر كالضفادع والسحالي والأفاعي وبعض أنواع الحشرات، إضافة إلى العديد من الكائنات الأخرى التي يتحوّل لونها إلى الأخضر، متوافقة مع البيئة من حولها كنوع من الحماية المعروف بـ"الكاموفلاج" أي التمويه. ولقد بات "الكاموفلاج" تكتيكاً عسكرياً متعارفاً عليه، فالبزات القتالية لمعظم جيوش العالم لونها أخضر في الغالب أو مرقعة بدرجات الأخضر على نحو يمثل تدرجات الأخضر في الطبيعة، وذلك كي يتمكن الجنود من التماهي مع البيئة القتالية، التي تدور في معظم الأحوال في الغابات والأدغال. بالمقارنة، تميل بزات الجنود والعساكر الموجودين في بيئات صحراوية أو مكشوفة إلى اللونين البيج والكاكي، المتوافقين مع لون رمال الصحراء.
- رموز ثقافية مختلفة:
إنّ النمو، كأحد المعاني الأساسية للأخضر، لا يقترن بالنباتات وكائنات الطبيعة، بل حتى الإنسان له في "الاخضرار" نصيب. فحين نصف أحدهم بأنّ "عوده أخضر" فهذا يعني أنّه يتمتع بخبرة قليلة في الحياة أو غير ناضج تماماً، وأنّه لم يزل في طور النمو، نفسياً وفكرياً، هذا التعبير أيضاً يستخدم في وصف مَن يتمتع بروح شابة ترفض الكبر، خاصّة من الرجال العجائز الذي يصمدون في وجه الشيخوخة، جسداً وروحاً. في السياق ذاته، يستخدم الأخضر كأحد الألوان المعتمدة في أحزمة رياضة الجودو رمزاً للأشجار الخضراء؛ فكما أنّ الشجرة الخضراء تكون في العادة طويلة وشامخة، هكذا أيضاً يجب أن يكون سعينا إلى المعرفة، بحيث نسعى إلى الأعلى والأرفع دائماً.
على الرغم من أنّ الأخضر يوحي بالحياة والخصب بصفة رئيسية إلّا أنّه لا يوجد ثمة إجماع ثقافي على دلالاته الإيجابية، ففي بعض الثقافات الأسيوية يرتبط الأخضر بالمرض والغثيان، كما أنّه في ثقافات أخرى رمز للفناء والتحلل، وهو رمز مستقى من العفن الذي يميل لونه إلى الأخضر. كذلك، يقترن الأخضر في بعض الثقافات بالغيرة والحسد. وفي بعض الخرافات ترقى إيحاءات الأخضر إلى مستوى الشرّ؛ إذ يُقال إنّ الخياطات يرفضن استخدام خيط أخضر عشية عرض أزياء خشية أن يجلب ذلك سوء الحظ. في الفولكلور الإنجليزي يقترن الأخضر بالسحر في طابعه الشرير، وفي التقليد السلتي، نسبة إلى أيرلندا وشمال أوروبا، كان يتم تجنب الأخضر في الملابس لاقترانه، بحسب الخرافات المتداولة، بالموت وسوء الطالع. ومع ذلك، تظل معاني الحياة والنماء والبهجة وما إلى ذلك من صفات إيجابية هي الأكثر حضوراً للأخضر وتمييزاً له في معظم الثقافات الإنسانية عبر التاريخ؛ ففي مصر القديمة، كان الأخضر رمز البعث والخلود؛ فكان يتم تصوير أوزيريس، "إلهة البعث" عند المصريين ببشرة خضراء. في العصور الوسطى، كان الأخضر رمزاً للحبّ والأساس لرغبات الرجل الطبيعية. وفي ثقافة الأزتك الغابرة، اعتُبر الأخضر لوناً ملكياً، لأنّه لون ريش طائر الكَتزَل الذي كان يستخدمه زعماء قبائل الأزتك ووجهاؤها.
في الهند، يشكّل الأخضر لون القلب "تشاكرا"، المعروف أيضاً بـ"أناهتا". يقع تشاكرا في مركز منطقة الصدر وهو مرتبط بالقلب، والرئتين، والدورة الدموية وشبكة الأوعية القلبية وكامل منطقة الصدر. ويعمل القلب تشاكرا على جسر الهوة بين العالمين المادّي (أي الجسد) والروحي. ومن شأن فتح القلب تشاكرا أن يسمح للشخص بأن يحب أكثر ويظهر تعاطفاً أكبر. في الصين، يقترن الأخضر بالشرق، أي بشروق الشمس، وبالحياة والنمو. ولما كانت للحجارة الكريمة دلالاتها، فإن حجر اليشب الأخضر في الثقافة الصينية يشير إلى الجمال والفضيلة. أما في اليابان، فيُنظر إلى الأخضر بوصفه لون الحياة الأبدية.
والأخضر هو الشعار الرسمي لأيرلندا، حيث يمثل هذا اللون النابض، الصاخب بالحياة، المروج الخضراء التي تحتل المساحة الأكبر في البلاد. في المناطق الجبلية من اسكتلندا، كان الناس، ولايزالون، يرتدون الأخضر علامة على الرفعة والشرف. وفي البرتغال يرمز الأخضر إلى الأمل لارتباطاته بفصل الربيع، المليء بالبهجة والحبور.
- دلالات دينية:
من الدلالات البارزة للأخضر تلك الدينية، ففي العديد من الأديان يقترن الأخضر بالبعث والنشور، فـ"إله الخصب" في الأساطير السلتية المندثرة كان مقترناً باللون الأخضر، والأخضر هو اللون المرتبط بيوم الأحد في الكنيسة الكاثوليكية، وهو لون الأيرلنديين الكاثوليكيين مقابل اللون البرتقالي الذي يمثل الأيرلنديين البروتستانتيين. كذلك، يعتبر الأخضر من ألوان احتفالات عيد الميلاد "الكريسماس" لدى السميحيين، إلى جانب اللون الأحمر. بيد أنّ الإسلام يظل الديانة الأكثر تمثلاً بالأخضر وتمثيلاً له؛ فقد جاء ذكر الأخضر في القرآن، بوصفه اللون المميز في الجنّة، لجهة وصف مظاهر الطبيعة الغناء التي تظلل المؤمنين الأبرار في الفردوس، بل إنّ الأخضر هو اللون الغالب في ثياب أهل الجنّة، كما ورد في العديد من الآيات القرآنية، من ذلك قوله تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف/ 31)، وقوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) (الرحمن/ 76). وقال تعالى: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) (الإنسان/ 21). لذا، ليس غريباً أن تتخذ العديد من الدول العربية والإسلامية والحركات الإسلامية عموماً اللون الأخضر رمزاً لها مثل علم المملكة العربية السعودية، على أنّ العلم الأكثر شهرة هو علم ليبيا، فهو العلم الوحيد في العالم الذي يتألف من لون واحد هو الأخضر، من دون أي تصميم أو كتابة أو إشارة من أي نوع.
الحديث عن أعلام الدول الإسلامية يعرج بنا إلى أعلام الكثير من الدول التي يشكل الأخضر مقوماً أساسياً فيها، لأسباب رمزية أو ثقافية أو جغرافية. فالأخضر أحد الألوان الثلاثة (إلى جانب الأحمر والأسود، أو الأحمر والذهبي) للقومية الأفريقية. لذا، تستخدم العديد من البلدان الإفريقية الأخضر في أعلامها، من بينها جنوب إفريقيا والسنغال ومالي وغانا وإثيوبيا وغينيا وزيمبابوي وبنين. تجدر الإشارة هنا إلى الألوان التي ترمز إلى القومية الأفريقية أخذت في الأساس من العلم الإثيوبي، إحدى أقدم الدول المستقلة في أفريقيا. ويمثل الأخضر في هذه الأعلام الطبيعة الغنية للقارة السمراء.
من الدول الأخرى التي تستخدم اللون الأخضر في علمها كرمز للطبيعة الغنية والنباتات الخضراء التي تغطي مساحة كبيرة فيها جامايكا، في أميركا اللاتينية. كذلك يدخل الأخضر في علم الهند، رمزاً للخصب والرفاه من جهة، ورمزاً للإسلام، ثاني أكبر بادية في البلاد.
- سياسة خضراء:
يميز الأخضر لون العديد من الأحجار الكريمة كالزمرد واليشب والمالكايت والزبرجد الزيتوني والتورمالين وغيرها، حيث يقال إنّ هذه الأحجار تجتذب المال والرخاء والثراء. ثمة مَن يرى أنّ التزين بهذه الأحجار أو استخدامها بصورة من الصور يعمل على تعزيز الخصب، ويشيع التوازن في حياتنا، كما يجعلنا أقل توتراً وأكثر تكيفاً واستقراراً في البيئة من حولنا. حول ما يتعلق بالملابس، فإنّ الأخضر هو اللون الذي يجب أن نلجأ إليه حين نكون محبطين أو نسعى إلى إقامة علاقات طيّبة وصحّية مع من حولنا.
في بعض معانيه الضيقة، يقف الأخضر كرمز من رموز الرأسمالية، فهو لون ورقة الدولار الأميركي، العملة الأكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي، وبالتالي فكلمة "غرين" (أي أخضر) في اللهجة العامية، على الطريقة الأميركية، تعني الفلوس.
على أنّ الرمز الأكثر حضوراً واستخداماً للأخضر في الوقت الراهن هو البيئة وكلّ المفاهيم والسياسات والاقتصاديات المرتبطة بها. فهناك ما يعرف بـ"السياسة الخضراء"، وهي أيديولوجيا سياسية تضع نصب عينيها الأهداف البيئية، وتعمل على تحقيق هذه الأهداف من خلال إرساء ديمقراطية تنطلق من قاعدة شعبية عريضة. يدعم في العادة السياسة البيئية مناصرو البيئة وحُماتها الذين يعملون في الغالب من خلال "أحزاب الخُضر" الناشطة في أكثر من مئة دولة في العالم. و"حزب الخضر" هو حزب سياسي يركّز على حماية البيئة والسعي إلى استغلال موارد الطاقة النظيفة، كما تشمل أجندته برنامجاً سياسياً يقوم على نشر الديمقراطية في القاعدة الشعبية للمجتمعات وتبني سياسة اللاعنف وإرساء العدالة الاجتماعية، علماً بأنّ أحزاب الخضر ظهرت إلى حيز الوجود في سبعينات القرن الماضي.
في الإطار البيئي أيضاً، يبرز ما يعرف باسم "تأثير البيت الأخضر"، وهو التأثير الناجم عن البيوت الزجاجية أو البلاستيكية المستخدمة في بعض أنماط الزراعة، والتي تتسبب في تغيير درجة حرارة الأرض بصورة متزايدة، ما يسهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، المسؤولة عن كوارث بيئية مردها التغيرات المناخية. لذا، فإنّ من أولويات السياسة الخضراء في أي بلد محاربة ظاهرة الاحتباس الحراري وإقرار الخطط والبرامج اللازمة للسيطرة عليها.
وهكذا، ينطلق الأخضر من لون البيئة التي ندافع عنها ونحميها ليكون بيئة الروح التي نرتاح في فيها، والحياة اليانعة، النابضة بالطاقة والحيوية.
فلتكن الروح خضراء والجسد أخضر والتجربة خضراء، طازجة، لا تهرم.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق