• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثقافة الدعاء في القرآن

أسرة البلاغ

ثقافة الدعاء في القرآن

◄(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الإسراء/ 110). (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186). (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ) (النمل/ 62).   

الدّعاء: هو طلب الأدنى من الأعلى، ولا يُطلق مصطلح الدعاء إلا على طلب المخلوق من الخالق رجاء تحقيق ما يرجوه.. وهو تعبير عن طلب العاجز من القادر، والمحتاج من الغني.. والدعاء اعتراف بالربوبية، وتعبير عن عبودية الخلق للخالق؛ لذا كان من أسمى مظاهر العبادة..

إنّ بارئ الخلق عظيم.. قد أخرج هذا الوجود من العدم، وأفاض عليه كلّ عطاء الخير والرحمة، فتجلّت فيه آثار الصِّفات والأسماء الحُسنى.. فنحنُ نقرأ في صفحة الوجود.. تجلِّيات القدرة والوحدانية، والعلم والعدل والحكمة، والرحمة والجود، والبر والإحسان والجمال والجلال.. إلخ؛ لذا تتّجه النفوس الوالهة، والقلوب المؤمنة، والعقول المفكِّرة.. تتّجه إلى ربّها بالطلب والدعاء، وبالأمل والرجاء..

إنّ الدعاء يستبطن مفاهيم عقيدية ونفسية وتربوية عظيمة.. فالداع يؤمن أن لهذا الخلق رب يُديره ويُدبّر شؤونه، ويُصرِّف مقاديره..

الدّاع يشعر أنّه ليس وحيداً في هذا الكون.. تُهدِّده الأخطار، وتنهبه الكوارث والمحن، وتُحيق به الشدائد والآلام.. بل له ربّ رحيم، يسمع دعاءه، ويجيب دعوته..

إنّ الدّاع يطلب من ربِّه الذي أفاض عليه الوجود والنِّعم، وعرّفه بوجوده، ودعاه إلى الطّلب والدّعاء، ووعده بالإجابة..

إنّ الدّاع يطلب تغيير ما به من أذى وضُرّ، وما اقترف من معصية وذنوب، وفقر وفاقة وحاجة، ودفع المكروه والبلايا، وتحقيق ما يجب تحقيقه من خير وعطاء ونِعَم، وهو تعبير عن الشكر والإعتراف بالفضل والإحسان.. وهو مطمئن للإجابة.. فإن تأخّرت إجابة دعاء المخلصين فلحكمة ومصلحة خفيّة على الإنسان.. وهو العبادة وفيه الثّواب ودرجات القُربة..

وثمّة ملاحظة هامة نلاحظها عند استقراء آيات الدعاء في القرآن.. نلاحظ أنّ الدّعاء: هو طلب من الربّ.. والداعي يُخاطب الباري جلّ ثناؤه، بقوله: (ربِّ).. وفي ذلك سرّ لغوي وموضوعي.. فإنّ الربَّ هو المُنعِم والمُربي والمُنشِّئ إلى حدِّ التمام – كما يقول اللغويّون – لذلك كان الدعاء توجّه إلى مقام الرّبوبيّة، وليس إلى غيرها من مقام الصِّفات والأسماء.. لأنّه طلب من المرُبِّي والمُنشِّئ والمعُطي والمُنعِم.. مثالها:

    (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات/ 100).

    (رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (المؤمنون/ 118).

    (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) (آل عمران/ 8).

    (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 250).

    (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 286).

    (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم/ 40).

    (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).

يعرض القرآن نماذج من دعاء الأنبياء والصّالحين.. ليُعرِّف بعقيدتهم الحقّة، وبالقيم السامية، وبسلوكيّتهم الرّائدة.. لتترسّخ تلك القِيَم ثقافةً وسلوكاً ودوافع باطنية نحو التسامي وعطاء الخير، وليكون الدّعاء عبادة وتربية، وتطهيراً للذات، وإدامة الإرتباط بين الخالق والمخلوق والشعور بحاجة الإنسان وفقره وفاقته وعظيم فضله وإحسانه..

ومن هذا الشعور يتعالى صوت الدّاع بالشكر والثناء على الله، فتتجلّى في نفس الدّاع قِيَم التوحيد، وآثار الوحدانية، وعظمة الخالق، فيكرّر ما قاله الرسول (ص): "لا أحصي ثناء عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك".

 والمسلم الواعي المتأمِّل في نصوص الدعاء القرآني، يجد في الدعاء ثروة فكرية وعاطفية بنّاءة.. تساهم في بناء الذات والمجتمع والثقافة والحضارة..

 والقرآن في مضامين دعائه التي أوردها في نصوصه، يُثقِّف الإنسان بمفاهيم أخلاقية واجتماعية وإيمانية غزيرة، فهي إن أشرقت في آفاق النفوس ستملأها بالخير والإستقامة، وبالحبّ والعفو والرحمة والسلام..

 إنّ الدعاء خطاب عقيدي يُعبِّر عن عقيدة الدّاع وفكره وروحانيّته، ومستوى معرفته بالله، لذا فهو مصدر للثقافة العقيدية، كما هو تعبير عن أشواق النفس الروحية وآمالها الربانية ومواقفها السلوكية..

فمن الثقافة السلوكية في الدعاء، ما نجده في دعاء النبي يوسف (ع): (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (يوسف/ 33).

نقرأ الإيحاء بالتسامي نحو الحقّ والإستقامة، والقبول بالسجن وأذى النفس، وتفضيله على الفساد والإنحراف.. فالحياة في السجن أحبّ من الحياة في ظلمات المعصية والإنحراف والرذيلة.

 وفي دعاء القرآن الذي يُردِّده المتّقون، نقرأ أسمى معاني الحبّ للزوجة والأبناء، والعيش معهم في سعادة وهناء.. إنّه يوحي بذلك كلّه؛ ليُثقِّف الإنسان المسلم بهذه الثقافة الأُسرية الجميلة..

    (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).

    (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران/ 38).

    إنّها دعوة ودعاء للعيش الأسري السعيد الذي تُقَرُّ به العيون، وتطيبُ به الحياة.

    وفي المقطع الآخر من الدعاء نقرأ: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).

 وفِّقنا للكمال والتسامي في الإيمان والعلم والعمل.. وفِّقنا لأن نكون قدوة للمّتّقين، وقادة للمجتمع في طريق الهدى والصّلاح..

 وفي ثقافة الدعاء القرآني نجد تعليم الإنسان صيغة الدعاء لوالديه.. وفي نصّ الدعاء تذكير بفضلهما وإحسانهما.

    (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء/ 24).

 وتركيز لقيمة أخلاقية كُبرى في النفوس وهي الجزء الأساس من بناء مشاعر الحبّ والعطف والعناية.. هي أخلاقية الوفاء، ومقابلة الإحسان بالإحسان..

 إنّ البيت الذي يُبنى على أساس الحبّ والوفاء للأبوين وللزوجة والأبناء هو البيت السعيد..

  وتُشرق في أفق الدعاء القرآني أسمى القِيَم التربوية والأخلاقية.. منها قِيَم الحبّ والتواصل العاطفي بين أجيال العقيدة والمبدأ.. والإبتعاد عن الحقد والكراهية..

وفي هذا الأفق نقرأ:

(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر/ 10). (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر/ 47).

تشعّ هذه النصوص القرآنية بمفاهيم تربوية وأخلاقية رائعة الجمال والإحترام والتواصل البنّاء بين مفاهيم الحبّ والعطاء في نفس المتوجِّه بالدعاء والمناجاة.

القرآن يوحي للأجيال القارئة، جيل الإيمان اللاحق والجيل السابق بهذه المفاهيم، ليقرأ تاريخ المخلصين باحترام وتقدير، وتسامح مع ما قد حدث من هفوات تُعرض للإنسان في تجارب الحياة.. وليُذّكر جيل الإيمان اللاحق سلفه السابق بالخير والدعاء له بالعفو والمغفرة.. ويعترف له بالجميل وتأسيس المسار التأريخي على هذا الأساس..

(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا).

ونقرأ في هذا النّصّ طلب الدّاع من الله سبحانه أن يوفِّقه لطهارة النفس وتنقية الضمير والوجدان من الغلّ.. من الحقد والكراهية، وتحرّك أشواق الذات من أعماقها نحو علاقة الحبّ وطهارة النفس.. إنّه شوق حياة السعداء في عالم الجنان.. فلا غلّ ولا حقد ولا كراهية.. وإن علقَ في النفوس شيء من أدرانها، فعالم الجنان والنّعيم يأبى الحقد والكراهية..

    ويُحدِّثنا القرآن الكريم عن أهمِّية هذه الصِّفة الأخلاقية، وأنّها من صفات أهل الجنّة:

    (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) (الأعراف/ 43).

    إنّها حياة الحب والأخوّة التي تعمر القلوب والنفوس.. فتجمعها مجالس اللِّقاء، وروح الأُنس والسرور..

    تلك إشراقة الدعاء في النفوس وثقافته البنّاءة في السلوك.. تجرّد من الأنانية والحقد والكراهية، وشوق إلى الكمال والإستقامة، وحبّ للخير وطلبه من الله سبحانه للجميع.►

ارسال التعليق

Top