يخوض العالم بأشكاله وألوانه المختلفة حرباً عالمية ضد الإرهاب، تماماً كما تخوض منظمات إرهابية مختلفة مثل داعش والنصرة، ومن قـَبـْـلها القـَاعدة، حربها العالمية الخاصة ضد من تـُصَنـِفـَهُ عدوﱠا في هذا العالم. وكما هو معلوم، فإنه لمن النادر جداً أن تنتصر الجيوش النظامية على التنظيمات شبه العسكرية في أي جهد عسَكري مباشر. وفي أحسن الظروف، قد يتم تدمير التنظيم عسكرياً وإلحاق الهزيمة به، ولكن تبقى العقيدة والفكرة وتستمر وقد تمتد جذورها وتتفرع إلى تنظيمات أو أشكال أخرى. وهكذا يبقى العنوان وتنتصر العقيدة بذلك على واقع التنظيم المهزوم إلا إذا تمت معالجة الأسباب والمسببات التي تدفع الناس إلى الإيمان بها وقبولها بل والاستعداد للتضحية والموت في سبيلها. معادلة صعبة جداً وهي بذلك تفسر الصعوبة اللامتناهية في مخططات التصدي للإرهاب ومحاولات القضاء عليه.
السؤال الأكبر الأن هو مَنْ سيحرر العالم مِنْ مَنْ؟
هنالك ثلاث محاور من المهم إستيعابها جيداً لفهم حقيقة تنظيم مثل داعش وتبيان مدى صعوبة القضاء عليه. وهذه المحاور هي: الأسلوب والوسائل والأهداف.
أولاً: الأسلوب
الأسلوب الذي تتبعه داعش في تطويع التكنولوجيا الرقمية واستعمالها بكفائة عالية لخدمة أهدافها ونشر دعوتها وتعزيز سبل التواصل بين أعضائها ومؤيديها قد يكون أهم وأخطر ما يميزها. والسيطرة على قدرة داعش في ذلك المجال قد يكون أحد أصعب الأهداف في مهمة إضعافها أو القضاء عليها خصوصاً أنه لا يمكن التوصل إلى ذلك الهدف بشكل حاسم وشامل دون المساس بحرية الآخرين في تداول المعلومات والتواصل عبر الشبكة العنكبوتيه. ومن هنا فإن الإيقاع التكنولوجي المتقدم لداعش يجعل منها تنظيماً يمتاز عن مثيلاته بقدرته على الإبحار في محيط الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية بشكل يجعل من أمر مراقبته وملاحقته قضية صعبة وتـعتمد إلى درجة كبيرة على قدرة الآخرين على تسخيـر نفس التكنولوجيا لمحاربة داعش تحديداً.
لقد عَـزﱠزَ أمر إستغلال التكنولوجيا الرقمية بكفاءة من قدرة أعضاء داعش على التواصل والتنسيق والتخطيط دون الحاجة إلى المرور عبر مخاطر اللقاءات المباشرة. بالإضافة إلى أن هذا النمط من التواصل يساهم في الحفاظ على هوية أعضاء التنظيم وإبقاءها سرية وعدم إنكشاف بعضهم على بعض.
وهكذا فإن محاولات تصوير داعش بأنها عبارة عن مجموعة من الجهلة والمتوحشين المتعطشين لسفك الدماء واستعباد الفتيات هو نهج خاطئ قد يعطي الكثيرين انطباعاً غير صحيح عن ماهية داعش وقدراتها، وبالتالي قد يدفع الأمور بإتجاه إتخاذ قـرارات خاطئة من قبل البعض أو قد يؤدي إلى نتائج صادمة نتيجة الاستخـفاف بقـدرات داعش وبالتالي عدم توقع ضربات مؤلمة منها في زمان ومكان غير مُتـَوَقـَعَيـْن. وعلى أي حال، فإن القدرة على استغلال التكنولوجيا المتقدمة لا يعني أن هذا التنظيم يطمح إلى الوصول إلى السلطة بأساليب حضارية تنسجم مع تلك التكنولوجيا أو لتحقيق أهداف سامية تعبر عن قـِيَمٍ حضارية وإنسانية مُعترفٍ بها.
إن الحرب على داعش لن تـُحسَم بالجهد العسكري فقط، بل يجب أن تـُحسَم أيضاً من خلال القضاء على حضور داعش المكثف على الشبكة العنكبوتية وقدرتها الملحوظة على استغلال وسائل التواصل الاجتماعي دون أن يؤدي ذلك إلى فرض القيود على حرية التواصل عبر تلك الشبكة والحرص على عدم إخضاعها بالنتيجة لإشراف ونفوذ وتدخل الحكومات والأجهزة الأمنية والإستخباراتية بحجة محاربة الإرهاب، وهذا قد يكون هو الجزء الأصعب.
ثانياً: الوسائل
أما بالنسبة للوسائل ومع أن داعش وأخواتها من التنظيمات المتشدده الدموية التي تستعمل أساليب حديثة من خلال استغلالها الأقصى للتقنية الحديثة والرقمية فإنها في المقابل تستعمل وسائل بدائية دموية في زحفها "المقـَدﱠس" للوصول إلى السلطة سعياً لتحقيق أهداف بالية وأيديولوجيا دينية عفا عليها الزمن تعود إلى ما قبل العصور الوسطى ولم تعد تنسجم مع روح العصر والمفاهيم الإنسانية الحالية التي تم الوصول إليها بعد نضال طويل ومعاناة فاقت كل حدود بما في ذلك حروب شملت الكون كله في مراحل وأزمان مختلفة ومتعددة. ويبدو أن الوسائل الدموية العنيفة التي مارستها داعش قد ساهمت في خلق شعور عام بالصدمة شمل معظم دول العالم، ولكنها مع ذلك شـَكـﱠلت الوسيلة الأمثل والأكثر أهمية للإعلام والإعلان عن التنظيم وتسويقه حتى وإن كان قـَطـْع الـرؤوس وإستعباد النساء من الممارسات المرفوضة التي عفا عليها الزمن ولم تعد مقبولة بأي مقياس.
إن استعمال الدين كغطاء لتلك الوسائل وكعذر للوصول إلى الأهداف المنشودة لا يعني بالضرورة إضفاء الشرعية عليها وتعزيز فرص القبول بها بقدر ما قد يعني إلحاق الضرر بالإسلام كدين للإنسانية من خلال إلصاق صفات الإرهاب والدمـوية به. ومن جهة أخـرى، فإن استعمال الدين قد يؤدي إلى نمو قاعدة المؤيدين من خلال استقطاب العناصر الغاضبة ذات النزعة الدينية وهم موجودون بكثرة في المجتمعات العربية مما يعزز القاعدة العريضة لداعش ويضفي عليها الصبغة الإسلامية.
بالإضافة إلى ما سبق فإن الإطار الديني الذي يوفره الإسلام يسعى إلى إلغاء الهوية الوطنية ويسمح لتنظيم مثل داعش بالتعامل مع أرض الإسلام والمسلمين كوحدة واحدة وأن يسعى بالتالي إلى تأسيس "دولة الإسلام" على أي قطعة أرض يتم الاستيلاء عليها من أي دولة تصنف نفسها كدولة مسلمة وأن يقبل في عضويته أو في مبايعته أي مسلم بغض النظر عن أصوله أو الدولة التي ينتمي إليها. وهكذا، يسعى تنظيم مثل داعش إلى العالمية في عضويته وفي أهدافه وإلى التعامل مع العالم كساحة واحدة مفتوحة أمام نشاطاته وبرامجه من خلال تدمير النظام السياسي العربي القائم والسعي إلى إعادة إنتاجه كنظام إسلامي.
ثالثـاً: الأهداف
لا أحد يعلم بالتحديد ما هي الأهداف الحقيقية لتنظيم داعش. فالإشارات العديدة المتضاربة عن نشئتها والقوى التي تقف خلفها تجعل من الصعب الفصل بين تلك النشأة وبين ما تسعى داعش إلى تحقيقه، ناهيك عن استمرار شكوك العديدين بها وبدورها المخطط له في المنطقة. وهذا يعني أنه لا يمكن القبول بالأهداف المعلنة لداعش كبديل لما هو مخفي . فالفرق بين المعلن والمخفي قد يكون خطيراً وهنا مربط الفرس. إذ لا يكفي الإعلان عن هدف ما، مثل هدف إنشاء "دولة الإسلام" والإكتفاء به بإعتباره الهدف الحقيقي، في حين أن ذلك لا يمكن أن يتحقق مثلاً إلا عبر تفتيت الدول المعنية وتدمير هوياتها الوطنية وقتل وهدر دماء العديد من مواطنيها أو تهجيرهم في حال قررت داعش أنهم من دين أو مذهب آخر بغض النظر عن مُوَاطـَنـَتهم. أهداف داعش المعلنة إذاً لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تدمير ما هو قائم أولاً، وهذا غير معلن مثلاً مما يلقي بعض الضوء على الأهداف الحقيقية من وراء إنشاء داعش.
إن ربط ملابسات النشأة بالأهداف المبتغاة قد يعطي مجالاً أفضل للرؤيا الأوضح خصوصاً وأن الانطلاقة المفاجئة والصاروخية لتنظيم داعش خلقت إنطباعاً، بل وقناعة، لدى العديدين أن وجود هذا التنظيم مرتبط بمخططات تحظى برعاية ودعم بعض القوى الدولية والإقليمية. وهكذا يصبح ما يبدوا بسيطاً، أمراً معقداً يصعب استيعابه إلا إذا تم التعامل معه بمنظور شمولي. إن مرور الوقت لم يساهم في تبديد شكوك الكثيرين تجاه داعش وأصولها، وما زال العديد يؤمن بوجود رابط بين مسار داعش ونشأتها من جهة وبين الأهداف الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة من جهة أخرى.
هنالك البعض ممن حَدﱠدَ موقـِفـَه من داعش استناداً إلى منطلقات مذهبية تعتبر داعش قوة دافعة أو حامية للمذهب السني. ومع أن المذهبية هي أحد الأدوات التي تستعملها قوى دولية وإقليمية من أجل تفتيت المنطقة وتمزيق دولها، إلا أن هنالك قاعدة شعبية سنية عريضة آخذة في النمو لصالح تنظيم داعش في ظل أجواء ضاغطة مملؤة بالكراهية والمعاناة والحقد والغضب على الأنظمة الحاكمة الفاسدة التي سمحت للأوضاع في المنطقة بالانهيار إلى هذه الدرجة، ولا تجد وسيلة للتنفيس عن غضبها إلا من خلال تنظيمات دموية سوداوية مثل داعش. ومع أن ربط داعش بالمذهبية يهدف إلى استعمالها كنقطة استقطاب للمسلمين السنة في المنطقة بغض النظر عن أصولهم أو انتماءهم الوطني، إلا أن الحقيقة تبقى أن دور داعش هو في النتيجة مُدَمِـر وآثاره على دول المنطقة وشعوبها سلبي، وهذا ما جعل العديد من دول المنطقة تـُضْفي صفة الإرهاب على داعش كتنظيم وعلى أساليبه وأهدافه مع أن بعضاً منها قد ساهم في تأسيسه. هذا مع العلم أنه إذا ما إلتقت مصالح أي نظام مع مصالح الإرهاب الداعشي من خلال تكامل الأدوار واستعمال كل طرف للطرف الآخر لتبرير وجوده واستمراره كما هو علـيه الحال في سوريا مثلاً، فإن ذلك من شأنه أن يُعـَقـﱢد عملية القضاء على الإرهاب كون القضاء على أي طرف في هذه الحالة قد يشكل مدخلاً للقضاء على الطرف الآخر، والإرهاب في هذه الحالة يصبح موضوعاً نسبياً وخاضعاً لتكامل الأدوار أو تضاربها.
لا يوجد في الحقيقة أي سبب يدعو شعوب المنطقة للتفاؤل أو لاعتبار تنظيمات مثل داعش تطوراً إيجابياً في مجرى الأحداث حتى وإن كانت تسعى إلى القضاء على بعض الأنظمة العربية القائمة التي تعاني منها شعوبها أو إذا كانت تـَدﱠعي أنها تمثل مذهب دون غيره وأنها تسعى لحماية أتباع ذلك المذهب. ولكن تبقى الحقيقة المرة أن إسرائيل ليست على قائمة أعداء داعش ولم تكن كذلك في أي وقت من الأوقات، وهو ما يضيف مزيداً من الشكوك حول طبيعة هذا التنظيم والأهداف التي يسعى للوصول إليها .
لقد ساهمت قوى عديدة دولية وإقليمية ومحلية في خلق ما يسمى "بالإرهاب" ومن ثم تحويل صفته إلى "العدو الأخطر" لأسباب بعضها معروف وبعضها الآخر مجهول. ولكن من الواضح أن إلصاق صفة "العدو الأخطر" بالإرهاب قد قدمت خدمات هامة لبعض القوى الدولية والإقليمية من خلال إحتلالها الصدارة في الأهمية وحلولها محل العديد من الأعداء الحقيقيين وأهمهم إسرائيل وهي "العدو الأخطر" الحقيقي على الأمة العربية. وهكذا نجح العَـدَاءْ للإرهاب فيما فشل فيه العداء لإسرائيل في شحذ همة العرب وفي إنضمامهم إلى جهد عسكري لمقاومة ذلك الخطر. واستفاق بعض العرب وسيستفيـق البعض الآخر ليكتشفوا أن منهم الجَلاد ومنهم الضحية دون أي اعتبار للمستفيدين في نهاية المطاف وهم بالتأكيد لن يكونوا عرباً أو مسلمين.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق