الأطفال هم الأمل بغد رائع..
والموسيقى هي الجمال، فما بالك حين يتعانق الأمل والجمال..
في آخر كل ربيع وبداية كل صيف تهدينا النوادي الموسيقية عروضا موسيقية إبداعية، فنفرح كتربويين وأهالي بهؤلاء الورود والأزهار على مسرح قصر الثقافة برام الله..هناك اعتدنا فرحهم وفرحنا، وعرسهم لمستقبل جميل.
في المسلسل التركي الشهير "بائعة الورد" يذهب مراد ولميس لمشاهدة فرقة من ذوي الحاجات الخاصة تعزف الموسيقى، وكان قد علقت على يمين المسرح يافطة، مكتوب عليها باللغة الانجليزية Music for all، حيث يبدو أن هذا تقليد عالمي يهدف إنسانيا وفنيا إلى أمرين: إيصال العروض لأكبر قدر من الناس، وتشجيع الأطفال والفتيان على الانخراط في النشاطات الموسيقية، وأن هناك مجالا لتعليم الموسيقى من غير المتخصصين.
وبرنامج "الموسيقى للجميع" في فلسطين يسير على النهج نفسه كما في تركيا وغيرها، لقد تم ابتعاث موسيقيين إلى قرى نائية، حتى يلمس الأطفال ويتلمسون عن قرب ويتعرفون على الموسيقى كسماع وآلات تتجاوز المعرفة البصرية من خلال التلفزيون والحفلات العامة.
تربويا، وعلى مدار 13 عاما، تم بناء شراكة فريدة من نوعها، تقوم على التربية على الموسيقى، مقترنة بالتربية على الفرح والسرور، وصقل الوجدان الإنساني لأطفالنا، بما يحرك فيهم نوازع الجمال، والتذوق الفني المنطلق من الوعي على حبنا جميعا للموسيقى.
لم نكن كفنانين وتربويين بحاجة للتأكيد على أهمية الفنون ومنها الموسيقى للطلبة، فثمة اتفاق يصل حدّ الإجماع على ضرورة إدراج الموسيقى في أية عملية تربوية تستهدف تنشئة الأطفال-طلبة المدارس بشكل خاص.
من أين جاءت الفكرة؟
لم يعد مهما من أين جاءت، فقد أصبحت الفكرة بعد هذه السنوات ملكية وزارة التربية والتعليم ومؤسسة صابرين، كشريكين محليين، والمعهد النرويجي للعروض الموسيقية ريكسكونسيرتنه كشريك دولي، وانضمام مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ومدارس البطريركية اللاتينية لهذه الشراكة الإبداعية والتعاون المثمر.
بعد هذه السنوات التي مضت من هذا التعاون، ومن خلال النظر إلى هذه الشراكة نظرة موضوعية، فإننا سنجد أن جوهر عملهم معا وشكله أكّد على أسلوب إنساني وثقافي، فهو يتجاوز المشاركة في بناء البرنامج والتنسيق فيه على جميع مستويات الميدان، إلى ما هو جوهريّ في التعامل التربوي والفني مع فكرة وجود الموسيقى في المدارس؛ فقد كانت البداية من وزارة التربية والتعليم ، تلك الوزارة الفتية التي لم يمرّ على تأسيسها غير 4 سنوات، حتى بدأت تسعى إلى التطوير التربوي، والذي شمل في توجهاته فيما شمل التربية على الفنون والثقافة، والتربية على الفن التشكيلي والمسرح والموسيقى بشكل خاص، حيث توج هذا الفهم والاتجاه التطويري في تضمين خطة المناهج الفلسطينية بضرورة إيجاد مبحث الفنون، والذي تم تضمينه في الخطوط العريضة للمناهج، وفيما بعد تم تأسيس كتب التربية الفنية في المناهج، والتي شارك فيها الفنانون من مشاربهم المختلفة، الفن التشكيلي والدراما والموسيقى. وإيمانا منها بذلك، فقد بدأت الوزارة بتوظيف خريجي الفنون الجميلة في المدارس، لكن هذا الاتجاه كان بحاجة إلى تأمل وتطوير وتجلّ فعلي للفنون في حياة الطلبة، حتى لا يتم التعامل مع إدماج الفنون في المناهج بشكل شكلي، يؤول إلى ما كان عليه الحال في سنوات سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على التربية والتعليم.
من هنا التقطت مؤسسة صابرين للتطوير الفني هذا الخيط-الفكرة، وبدأت ببلورة فكرتها حول كيفية التعاطي مع هذا الاتجاه الإيجابي في نظرة صناع القرار في أروقة وزارة التربية والتعليم تجاه الموسيقى والفن بشكل عام.
وقد اتجهت صابرين كمؤسسة مختصة بالموسيقى إلى البحث عن صيغة عملية، لتنزيل الفكرة النبيلة إلى الأرض، حتى لا تظل مجرد فكرة وكتب ومعلمين يجتهدون بشكل فردي، في ظل نقص الكادر المختص سواء في الوزارة نفسها او مديريات التربية والتعليم.
وقد استفادت مؤسسة صابرين في بحثها الفكري حول التعامل مع الموسيقى من مصدرين من المعرفة:
- خبرتها الذاتية في تعليم الموسيقى من خلال برامجها مع النشء، خصوصا البرنامج المسمى ببدايات.
- والثاني استفادتها بشكل مهم من الإنجازات الدولية في هذا المجال، من خلال علاقاتها مع المؤسسات الموسيقية الفنية والأكاديمية، فكانت العلاقة مع المعهد النرويجي للعروض الموسيقية ريكسكونسيرتنة بشكل محدد، دافعا لتوظيف الخبرات في تحويل الفكرة إلى حقيقة عملية تنفذ على أرض الواقع في المدارس والنوادي والمخيمات الصيفية والعروض المختلفة، من عروض موسيقية مدرسية، بطموح نحو مشاركة الطلبة في عروض الشوارع أيضا، بما يجعل للمدرسة دور فني خارج أسوارها، أي داخل المجتمع ..
بعد أن وعت وزارة التربية والتعليم العالي على ما يتم نقاشه في هذا الموضوع محليا وعالميا، ومن خلال الاستماع لخبراء من الخارج في هذا الموضوع الحيوي والجمالي، قامت بالتعاون مع مؤسسة صابرين في البحث الفكري وتبادل الخبرات والأفكار، فكانت البداية من خلال ملاحظة الواقع الموسيقي، فكان أن تم عقد مؤتمر عام 1999 بالتعاون مع الوزارة وبالشراكة مع المركز الثقافي البريطاني، تم فيه تحليل الواقع التربوي للموسيقى، ووضع خطط مستقبلية بالاستفادة من الخبراء في العالم، شارك فيه التربويون والفنانون والمؤسسات الفنية بحضور أساتذة وخبراء من الخارج.
ومنذ ذلك الصيف حتى الآن والشركاء المحليون ومن الخارج، يتابعون ويطورون حسب الاحتياجات، فقد تم تلبية حاجات كل من المعلمين والمشرفين للتدريب، وتعميمه، فكانت العروض المستمرة بمثابة قطفا لثمار التدريب. لقد كان هناك تدريب على التعامل مع الدرس والآلات وصناعتها وعلى الجوقات وإخراج العروض، وكانت النوادي الموسيقية التي تم بناؤها في مراكز المدن في عدد من المديريات مجال البحث عن المواهب.
من ناحية منظورنا معا لبرنامج "الموسيقى للجميع" تربويا وثقافيا، فإن ينبغي علينا دوما تذكر
أن إضافة التربية الموسيقية ضمن منهاج الفنون في المدارس الفلسطينية شكل إثراء للعملية التربوية. لكن من جانب آخر كان من الصعب تطبيق ذلك عمليا بدون التعاون مابين قطاع الفن الموسيقي والمؤسسة التربوية. وهذه أهمية التعليم العام في أي بلد، كونه يعرّض أكبر قدر من الطلبة لأي برنامج ومنهاج يتم تبنيه أو إقراره.
كما كان هناك إيمانا واقتناعه من قبل مؤسسة صابرين كمؤسسة فنية بضرورة إغناء البرنامج تربويا، من خلال إعداد مواد صفية كانت في البداية من الصف الأول حتى الرابع، معتمدة البحث الإجرائي الذي يقوم على تلقي المعلمين برامج تدريب يقومون بتعديلها بعد تجريبها، فكان ذلك دليلا على قناعة الفنانين بإشراك التربويين في تطوير البرنامج البرنامج بالتعاون مع الفنانين والمدربين الموسيقيين، من منطلق ضرورة وضع التعليم الموسيقي ضمن السياق التربوي لتعميقه، وزيادة قدرات المعلمين في التعامل مع الأطفال، خصوصا أن الأطفال يميلون أكثر إلى الألعاب التربوية.
إننا نضم صوتنا لهؤلاء التربويين الذين يدركون دور الموسيقى ليس في تهذيب النفس وإطلاق خيالها الإبداعي، بل أيضا لأن الموسيقى تفعل عملية التعلّم.
إن الأعداد المتزايدة من الطلبة والمعلمين والموسيقيين الذين تعرضوا للانخراط في أنشطة وتدريبات موسيقية، حيث يتوقع من نشر الثقافة الموسيقية في المدارس والمجتمع أن يحدث هناك ارتقاء بالوعي الموسيقي. فالنهوض الموسيقي في فلسطين يتم بتعاون المؤسسات والأفراد من موسيقيين وموزعين .
لقد تطورت نظرة وزارة التربية والتعليم تجاه الموسيقى من خلال ترسيخ وجود الموسيقى محورا في التربية الفنية، من منطلق إيمان التربويين بأن للموسيقى أثرا ودورا في التعلم الفعال وصقل الشخصية وتهذيب الذوق. لكن ذلك يحتاج إلى زيادة عدد المعلمين المتخصصين في الموسيقى.
ومن المعروف أيضا أن هناك دورا للموسيقى في تعديل سلوك الطلبة تجاه الآخرين، وبالتالي تشكل الذائقة الفنية للطلبة كمواطنين مستقبليين وسيلة من وسائل إصلاح العلاقات الداخلية في المجتمع.
تنفيذ البرنامج في المدارس له علاقة مباشرة في تطوير الموسيقى في المجتمع من خلال نشر الثقافة الموسيقية، وبناء جمهور موسيقي من الطلبة والأهالي، لذلك فإننا نراقب البرنامج من أجل قياس أثر تطبيق البرنامج على المجتمع، الآن وفي المستقبل. وأكد على أن كل مواطن لدية القدرة الموسيقية، وهذا يدعم فكرة أن الموسيقى هي للجميع وليس فقط للمتخصصين، فالكثير من المدارس والنوادي التي اشتركت في البرنامج أصبحت تمتلك خبرة فنية تؤهلها الى تقديم عروض موسيقية.
إن الانطلاق من المدرسة نحو تضمين مفاهيم فكرية وفنية سيظل الأساس في نجاح أية خطط تربوية وثقافية وفكرية؛ وإن الإيمان بذلك يقصر المسافات ويختصر الزمن اللازم لأية عملية تنموية في الثقافة والفنون. ولا بد من التعاون الثنائي بين التربويين والفنانين بحيث يكون نابعا من القناعة المشتركة بتكامل الأدوار.
ويحدونا الأمل بأن تصبح الموسيقى في بنية العملية التربوية، بما يستجيب لطموحنا الإنساني والوطني في الاتقاء بوجدان الطفل، كمواطن فلسطيني في المستقبل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق