• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

والمخيم..

تحسين يقين

والمخيم..

أنصح كل من يتحدث في قضية اللاجئين، أن يكثر من زياراته للمخيمات..
 للمخيم ما له من حياة، ومن طول انتظار..إنه يعني الانتظار، وفي حالتنا الفلسطينية يعني الانتظار الطويل..فالإقامة المؤقتة تخلق معها حياة نفسية واجتماعية مؤقتة..على أمل حلّ الخيام والعودة إلى البيت..
في طفولتنا، التقينا نحن أبناء الفلاحين القرويين مع أولاد وبنات المخيم، فصرنا نتخيل ماذا يعني المخيم؟
كان الأطفال اللاجئون يحتفلون كلما زاروا القرية، كانوا يحبون كل شيء فيها، الأرض والشجر والثمار والحمير، كانوا يطيرون سعادة، لدرجة إننا كنا نتفاجأ بهذه المحبة والشوق، فكنا نصحبهم للأرض..وهناك رحت أعيد اكتشاف القرية، الأرض الزراعية والشجر الجبال والصخور وأعشاش العصافير والأزهار.. وطعم الثمر، كل شيء كان لديهم جميل الطعم..
كانوا دوما يتشوقون للقرية، أما أنا فكنت أتشوق للمدينة، وللمخيم كون ملاصق للمدن..
والمخيم الذي ارتبطت به قليلا هو مخيم قلنديا بسبب القرابة والنسب، والذي كان قبل عام النكبة 1948، كانت علاقتنا مع قرية سريس بشكل خاص حيث تزوجت عمتي لبيبة رحمها الله في عشرينيات القرن العشرين..
في النكبة لجأت عمتي لأبيها جدي ذياب منصور..
وما زلت أذكر زيارتي الأولى للمخيم..وكيف تأثرت بحياة اللاجئين..حزنت وغضبت، وحمدت الله أنه كانت لنا بلد أخرى عدنا إليها عام 1948، فنحن أيضا لاجئون..لكن لم نعش حياة اللجوء إلا بقدر محدود..خصوصا في سنوات الخمسينيات كوننا كنا نعتمد على الأرض الزراعية التي استلبت كونها أرض أكثر خصوبة من جبال القدس حيث نقيم.
طبعا صرنا نتعرف على المخيمات الأخرى، حتى لكأنني زرتها جميعا، هنا في الضفة الغربية، وأخرى في الأردن الشقيق..
وحتى نعرف مكاننا وأرضنا وقيمتها هنا، وفيما ضاع واستلب، علينا أن نعرف شيئا عن المخيم..
وأهله وتاريخه..
زرت فيما بعد المخيمات الفلسطينية في بغداد..فتوقعت أن أرى شيئا مختلفا..لكن المخيم كان هو المخيم..
واليوم يلجأ اللاجئ الفلسطيني في سوريا إلى أماكن لجوء أخرى..بعد كل هذا الانتظار والألم، دخل مرحلة مؤقتة ينتظر فيها العودة لمكانه المؤقت..تعقدت الأمور!
إنه لجوء اللجوء، وهذا يحتاج إلى مقال أو دراسة أو بحث خاص عنه..
ترى ما المخيم! هل من تذكير للجيل الجديد؟ هل من إثارة شجن الجيل القديم؟
لغويا هو من الفعل خام، أي أقام في المكان، ومنه الخيمة، وخيّم القوم، أي نصبوا خياماً، والخيمة هي كل بيت يقام من أعواد الشجر، يلقى عليه نبت يستظل به من الحر، أو البيت الذي يتخذ من الصوف أو القطن ويقام على أعواد، والجمع خيمات، وخيام، والمخيم: المكان الذي نصبت فيه الخيام، أما صناع الخيام فيسمى خيمي وخيام.
ولا أدري إن كان عمر الخيام سليل أسرة اشتهرت بهذه الصناعة..
لكن خيام الأعراب زمان غير خيام الفلسطينيين بعد عام 1948..ومخيم اليوم غير مضارب البدو..فرغم تنقل البدو طلبا للعشب والماء، إلا أنهم كانوا مستقرين نفسيا واجتماعيا أكثر من اللاجئين المقيمين في مكان واحد..
والمخيم في المعجم الفلسطيني الحديث هو رمز للشخصية الفلسطينية في المنفى، أقام فيه الفلاحون اللاجئون وفقراء الطبقة الفقيرة من المدن الفلسطينية حين هجروا من ديارهم عام 1948م.
وقد تكونت الخيام من مادة الشوادر ونحوها، وقد بدئ بإنشاء المخيمات في مرحلة مبكرة من الهجرة، حين استلمت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أو ما اصطلح على تسميتها اختصاراً  UNRWA من الهيئات الخيرية، حيث بلغت المخيمات 60 مخيماً عام 1950م، قدمت الأرض لها الحكومات المحلية. وقد تطور عمران المخيمات من الخيام المصنوعة من الشوادر المقوية، حتى البيوت المصنوعة من اللبن والأسمنت، وقد كانت مادة السقف تتكون من جسر من الخشب وبوص وأسمنت، تقدم بمساعدة الأونروا،( في عملها حول التاريخ الشفوي ذكرت د. فيحاء عبد الهادي أن النساء هن من بادرن بعمل غرف الطوب والاسبست) ثم أخذ اللاجئون بعد توفر الوفرة المالية خصوصاً لمن هاجروا إلى دول الخليج العربية والسعودية في حقبة الخمسينات حيث تدفق النفط بناء بيوت عصرية، ثم تطورت حتى غدت بنايات كبيرة بأسواق كبيرة أيضاً.
كما زرع الفلاحون اللاجئون أشجاراً كونهم قدموا من بيئات زراعية، مما ساعد على اخضرار المخيم.
مخيمات جديدة للنازحين عام 1967...
بعد نكسة عام 1967، تم إنشاء 6 مخيمات في الأردن، و4 في سوريا للنازحين، وبلغ عدد اللاجئين عام 1948م 716701 لاجئ.
قامت وكالة الغوث الدولية بتوزيع حصص الإعاشة، كما أقامت مراكز تغذية إضافية ومستوصفات ومدارس ومراكز للشباب. وقد قدمت الوكالة هذه الخدمات بدلاً من المجالس المحلية والحكومات التي لم تعد موجودة لهؤلاء اللاجئين.
وقد ظلت حكومات الدول التي لجأوا إليها مؤولة عن النظام العام والقانون.
وبسبب كون أبناء المخيمات قد انخرط جزء منهم في أعمال المقاومة بسبب ملائمة المخيمات لنمو الأفكار والمنظمات الهادفة لتحرير فلسطين، فقد أصبحت المخيمات هدفاً للغارات الإسرائيلية، بل هدفاً حتى للمجازر كما حدث في عام 1982م في مذبحة صبرا وشاتيلا. أما الغارات والاجتياحات فقد قامت بها إسرائيل في السبعينات وتوجت ذلك في حرب لبنان عام 1982م.
طردهم الاحتلال، ثم لحقهم خارج الأرض لضربهم وقتلهم..!
ولم تكتفِ بذلك، بل ظلت تضرب المخيمات، وقد تعرضت المخيمات في الانتفاضة الثانية بشكل خاص لتدمير إسرائيلي وتوجت سلطات الاحتلال هذه الوحشية بمجزرة مخيم جنين عام 2001م.
كبير هذا الظلم..!
ولأن المخيم دليل ساطع على الشخصية الفلسطينية، وحق اللاجئين في العودة إلى قراهم ومدنهم المدمرة والباقية، فإن إسرائيل تسعى إلى محو المخيم، وتسويق فكرة توطين اللاجئين خارج فلسطين من أجل تهويد فلسطين.
وقد اشتهرت عدة مخيمات مثل صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة وعين الحلوة والرشيدية ونهر البارد والبداوي في لبنان، ومخيمات جنين والأمعري والجلزون وقلنديا والدهيشة في الضفة الغربية، ورفح ومخيم الشاطئ في قطاع غزة، والوحدات والبقعة وإربد في الأردن، واليرموك في سوريا.
والمخيم من ناحية سكانية مكان فريد من جميع النواحي، فهو تجمع فئات سكانية من طبقات مختلفة وثقافات متباينة جمعتها حالة التشرد والرحيل والتهجير عن المكان الأصلي.
فهم بشكل عام فلاحون وعمال فقراء من المدينة (قبل عام 1948) لم يستطيعوا العيش في المدن عام 1948م لأنهم لم يكونوا يملكون مالاً للعيش فيها، مما جعلهم يعيشون في مخيمات على هامش المدن في البلاد العربية وفي الضفة الغربية وقطاع غزة أيضاً.
انتشرت في المخيمات ثقافة الاعتماد على الآخرين وتوقع المساعدات المستمرة، حيث لا مصدر للرزق يكفي عشرات الآلاف بل مئات الآلاف.
لذلك حين أزور المخيم حاملا حقيبتي، تبعث النساء أطفالهن يسألون عن تسجيل المؤن!
وبعضهم كان يسأل دون طلب..
فالمخيم خليط ثقافي من قيم مختلفة مدنية وقروية، جمعها هم الوجود، والفقر والحاجة المتزايدة، وقد لعبت البيئة في المخيم المكونة من بيوت متلاصقة وطرق ضيقة غير معبدة، ومجاري في الشوارع وكثافة سكانية إلى تشجيع اللاجئين على الاجتهاد لإصلاح الحال فاجتهدوا في العمل والتجارة والتعليم، وتحسنت ظروف حياة البعض. كما دفعت هذه البيئة الشباب والفتيات إلى الانخراط في صفوف المقاومة.
وتجتاح المخيمات ثقافة المحافظة التي يقتضيها وجود تجمع من أبناء أحفاد الفلاحين الأصليين المهاجرين، كما تحتاجها قيم الانفتاح والتي كان موقعها بالقرب من المدن سبباً في شيوعها، مما جعل الشباب بشكل خاص يعيشون حياة مضطربة اجتماعياً، ولولا وجود الاحتلال في الداخل (الضفة الغربية وقطاع غزة) لظهر على السطح المزيد من الاضطرابات الثقافية والاجتماعية.
وهذه ظاهرة كنا نلمسها ونحن أطفال لكن لم نكن ندركها، وكنا نتعجب من وجود تناقضات في الشخصية، الانفتاح والإنغلاق..
أما خارج فلسطين فما زال اللاجئون الذين يعيشون في المخيمات يدركون أنهم ناس غير مرغوب بهم. وهذا كفيل بخلق ثقافة العودة إلى الوطن للاستقرار بعد سنين الخوف والقلق.
من ظواهر المخيمات أن هناك قرى رحلت إلى مكان واحد، لذلك انتقل جزء من القرية من الأهالي والأقارب إلى مكان اللجوء، فظلت اللحمة الاجتماعية موجودة. أي لقد حمل اللاجئون ثقافتهم الأصلية في الملابس واللهجة والعادات والتقاليد والفنون.
إن وجود عدة آلاف يصل عددهم على عشرات الآلاف في مكان واحد جعل من الفلاحين قوماً آخرين، حيث أن شكل الحياة ليس قروياً، إلا أن مضمونه من الداخل ما زال قروياً محافظاً. ومازال المخيم مكاناً سياسياً ينظر إليه كقضية فلسطينية واللاجئين وضرورة العودة، إلا أنه خصب لإقامة وعمل الدراسات والبحوث من مختلف نواحي الحياة مثل تقسيم العمل، وضع المرأة، الثقافة، العلاقة مع المدينة، التحولات الثقافية الاجتماعية، دور المقاوم، المخيم و م.ت.ف، المخيم: من فلاحين إلى بروليتاريا ... وهكذا. والمخيم مكان للإفاقة مؤقت مهما أقام الفلسطيني فيه، سواء أقام اللاجئ في خيمة أم بيت حديث ...
والمؤقت مؤقت غير دائم حتى ولو طال!

ارسال التعليق

Top