• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«حالة الانسياب» عندما يصبح الصعب سهلاً

د. ياسر العيتي

«حالة الانسياب» عندما يصبح الصعب سهلاً

◄هل تذكر عملاً كنت تقوم به وأنت في غاية التمتع والاندماج بحيث مرت ساعة من الزمن وكأنّها دقائق؟ لا شك أنّ كلَّ واحدٍ منا قد مرّ في هذه الحالة.. إما وهو يقرأ كتاباً أو يستمع إلى محاضرة أو يدير اجتماعاً أو يلقي درساً أو يصلح جهازاً.. إنها الحالة التي يندمج فيها الإنسان اندماجاً كاملاً في العمل الذي يقوم به، فيغيب عن نفسه وعن الزمان، ويغرق تماماً في اللحظة التي يعيش فيها. والغريب في هذه الحالة أنّ الدماغ يكون في أقصى درجات التحفز والنشاط والتفاعل، لكن النفس تكون في أقصى درجات الاسترخاء!

لقد اهتم الباحثون في مجال الذكاء العاطفي بدراسة هذه الحالة، وسموها حالة الانسياب لأنّ طاقات الإنسان وملكاته الذهنية والجسدية تنساب انسياباً عندما يدخل في هذه الحالة، وقد تبيّن أنّ الناجحين أكثر قدرة على الدخول في حالة الانسياب من غيرهم، ففي تجربة أجريت على مجموعتين من الطلاب. إحداهما تضم طلاباً متفوقين، والأخرى تضم طلاباً عاديين، أعطي كلّ طالب جهازاً يمكن من خلاله التكلم معه، وطلب من الطلاب أن يحملوا هذا الجهاز معهم طوال الوقت، وكان الباحثونَ يتصلون بهم في أوقات مختلفة ويسألونهم عما يقومون به من أعمال، وعما إذا كانوا في حالة الانسياب أم لا، فتبيّن أنّ المتفوقين كانوا في حالة الانسياب في 40% من الأوقات التي كانوا يدرسون فيها، في حين كان الطلاب العاديون في هذه الحالة في 16% من أوقات الدراسة. وتفسير ذلك أنّ الدماغ كما قلنا، يكون في أقصى درجات النشاط والفاعلية في حالة الانسياب، لذلك تكون قدرته على الفهم والاستيعاب والتعلم في أوجها، والمثير في الموضوع أنّ العكس صحيح هنا، فكما تكون قدرة الدماغ على الأخذ في أشدها أثناء حالة الانسياب تكون قدرته على العطاء في أشدها أيضاً.

فقدرة الإنسان على الإبداع تزداد في حالة الانسياب، لأنّه يكون قادراً على استخدام كلّ ما لديه من مهارات، لإنجاز العمل الذي يقوم به، فالأستاذ يبدع أكثر إذا كان يعطي درساً وهو في حالة الانسياب، والمدير يبدع أكثر إذا كان يدير اجتماعاً وهو في حالة الانسياب، وهكذا...

 

شروط الدخول في حالة الانسياب:

1-    أنْ تحب العمل الذي تقوم به، فلكي ننجح بما نقوم به يجب أنْ نحب ما نقوم به، وفي دراسة أجريت على 200 رسام في أحد معاهد الرسم سُئِلَ هؤلاء لماذا اخترتم الرسم مهنةً، فأجاب بعضهم لأننا نحب الرسم، وأجاب البعض الآخر لكي نصبح مشهورين، ونحصل أموالاً طائلة. بعد عشر سنوات تبيّن أنّ معظم الذين أجابوا بأنّهم اختاروا الرسم لأنّهم يحبونه نجحوا وأصبحوا رسامين مشهورين في حين أنّ معظم الذين أجابوا أنهم اختاروا الرسم ليصبحوا مشهورين تركوا الرسم واشتغلوا بمهنة أخرى.

2-    أنْ تنظر إلى العمل الذي تريد أنْ تدخل في حالة الانسياب أثناء قيامك به على أنّه تحدٍ وليس تهديداً، فانّ طريقة نظرنا إلى أمر ما تؤثر على مشاعرنا تجاه هذا الأمر، وقد أثبتت الأبحاث أنّ ذلك يتعدى المجال المعنوي العاطفي إلى الجانب الفيزيولوجي المادي، فقد وجد العلماء أنّ الذين ينظرون إلى المشاكل على أنّها تهديد، ترتفع في أدمغتهم مادة تسمى الكورتيزول، وهي تثبط نشاط العصبونات الدماغية، في حين أنّ الذين ينظرون إلى المشاكل على أنّها تحدٍ ترتفع في أدمغتهم مادة الكاتيكولامينات، وهي تنشط عمل العصبونات الدماغية أي إنّنا عندما ننظر إلى مشكلة ما على أنها تهديد، نفعّل في أدمغتنا نظاماً يشل قدرتنا على التفكير، وعندما ننظر إلى المشكلة على أنها تحد نفعِّل في أدمغتنا نظاماً يؤدي إلى الخلق والإبداع.

3-    التركيز كمدخل إلى حالة الانسياب: وهذا التركيز الإرادي مطلوب في البداية فقط، أما عندما يدخل الإنسان في حالة الانسياب فسينشغل كلياً بالعمل الذي يقوم به وبشكل منفعل لا إرادي، إنّ التركيز المطلوب في البداية هو بمثابة الشرارة التي تشعل النار، وبعدها يستمر الاشتعال من تفاعل الدماغ مع المهمة التي يقوم بها.

4-    يحدث الانسياب في منطقة متوسطة ما بين عمل سهل ممل وآخر شديد الصعوبة مرهق، إنّ الإنسان لا يدخل في حالة الانسياب إلا إذا كان أمام تحدٍ يفوق طاقته الاعتيادية، ولكن ليس إلى درجة التعجيز والاستحالة، وقد وصف أحد الجراحينَ كيف يدخل في حالة الانسياب قائلاً: إنّه عندما يكون أمام عملية صعبة يستخدم كلّ ما لديه من مهارات لكنه يشعر في الوقت نفسه بهدوء داخلي عجيب، حتى إنّه ينظر إلى أصابعه وهي تتحرك بسرعة وبراعة، وكأنّه مراقب خارجي!

إنّ أوضح مثال على حالة الانسياب هو لاعب السيرك الذي يلعب بعدة كرات في الوقت نفسه، فدماغ هذا اللاعب يكون في أقصى درجات التحفز والنشاط، لكن نفسه تكون في حالة من الهدوء والاسترخاء، ولو أنّه توتر قليلاً لسقطت الكرات من يديه...

لقد أثبتت الدراسات أنّ الدخول في حالة الانسياب هو أكبر دافع إلى العمل، فقد سُئِلَ 700 شخص في الستينيات من أعمارهم، عن أكثر شيء يحببهم في العمل الذي يقومون به، فأجاب معظمهم أنّ ما يحببهم في العمل الذي يقومون به، هو أنّ هذا العمل يدخلهم في حالة الانسياب.

إنّ المؤمن حين يدخل في الصلاة ومشاعر الحب لله تتقد بين جوانحه، وقد ترك الدنيا خلفه، واتجه إلى ربه بكليته، عندها يدخل في حالة الخشوع، وهي شكل من أشكال الانسياب، ولذلك كان نبينا محمّد (ص) يقول عن الصلاة: "أرحنا بها يا بلال"، وكان يقوم الليل فيغيب عن نفسه، وعن الزمان حتى تتفطر قدماه.

إنّ من صفات الإنسان الذكي عاطفياً هو قدرته على الدخول في حالة الانسياب فيما يقوم به من أعمال، لأنّه بذلك يبدع أكثر وينجز أكثر، ويصبح العمل عنده مجالاً للمتعة والإثارة، بدل أن يكون مجالاً للقلق والتوتر.

 

الإبداع والمرونة:

بما أنّ حالة الانسياب هي الحالة التي يبدع فيها الإنسان، فلابدّ من الحديث عن صفة مهمة من صفات الإنسان المبدع وهي المرونة. إنّ الإنسان المبدع هو إنسان مرن، فالمرونة هي التي تدفع الإنسان إلى تغيير تفكيره معاينة كلّ جديد. إنّ الناس العاديين يكرهون كلّ جديد، أما المبدع فهو يحب الجديد، وهو يعيد ترتيب أولوياته بحسب المتغيرات من حوله أو في نفسه، كما أنّه إذا صادف عقبة التف حولها وغيّر وسائله للوصول إلى هدفه، وأحياناً يغيّر أهدافه نفسها إذا وجدها غير واقعية. إنّ هذا بالطبع لا يعني أن يغيّر الإنسان مبادئه وثوابته، ولكن أنْ يتخلى عن تصلبه في سبيل تحقيق مبادئه. إنّ المتصلب يكره التجديد لأنّه لا يتحمل القلق الذي يحمله كلّ جديد، أما المبدع فيتغلب شعور الفضول وحب الاكتشاف لديه على الشعور بالقلق الذي يسببه الجديد، وقد بيّن القرآن الكريم أنّ حب القديم والخوف من التزحزح عنه هو من صفات القوم الذي يعطلون عقولهم ولا يستخدمونها في البحث عن الحقيقة قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170)، إنّ ما يفسر قدرة الأطفال الهائلة على التعلم، هو أنّهم يفاجؤون ويندهشون من كلِّ جديد، ويحاولون معاينته واكتشافه، ولو أننا حملنا معنا دهشة وفضول الأطفال طوال حياتنا لتضاعفت قدرتنا على التعلم والإبداع، ولذلك يقال: إنّ هناك طفلاً مشاغباً يسكن في داخل كلّ عبقري. ►

 

المصدر: كتاب الذكاء العاطفي (نظرة جديدة في العلاقة بين الذكاء والعاطفة)

ارسال التعليق

Top