• ١٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آياتُ العزّة في القرآن الكريم

أسرة البلاغ

آياتُ العزّة في القرآن الكريم

آياتُ العزّة في القرآن الكريم تعطينا - من جانبها - معاني العزّة الحقيقية والأُخرى الوهمية المصطنعة، أو العزّة الأصيلة والأُخرى المُنتَحلة، فماذا يطالعنا هنا؟

1- العزّة التامّةُ الكاملةُ المطلقة هي الأساس وهي لله تعالى كلّها:

قال تعالى: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ (النِّساء/ 139).

وفي الآية نفيٌ صريح للعزّة أو الاعتزاز بغير الله تعالى، إذ لا تُبتغى العزّة ولا تُطلبَ إلّا من مصدرها الأساس، وإلّا من حيثُ هي كاملةٌ مكتملة لا تشوبها ذلّة.

2- العزّة خُلقُ الله الذي يتخلَّق به أنصارُ دينه:

قال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون/ 8).

هي لله تعالى منبعُها ومصدرها وأساسها، وهي للرسول 6 بصفته مُمثِّلاً للسماء في الأرض، ومُتخلِّقاً بأخلاق الله في أبهى صُوَر التخلُّق وأكملها، وهي للمؤمنين المتأسِّين برسولهم 6، والمتخلِّقين أيضاً بأخلاق الله جلّ جلاله.

وبموجب هذه النظرة الثلاثية للعزّة، وهي للحقّ نظرةٌ واحدة، فإنّنا نرى أنّ القرآن لا يُجزِّئُ العزّة إلى ثلاثة أصناف: عزّة ربّانية، وعزّة نبويّة، وعزّة إيمانية، وإنّما هي عزّةٌ واحدةٌ متحدةٌ: أصلُها عزّةُ ربّ العزّة، وفرعُها ما يستمدّ منها من عزّة هنا وهناك، والأصلُ تتبعُه الفروعُ!

3- ارتباطُ (العزّة) بـ(الحكمة):

قال عزّوجلّ: ﴿لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران/ 6).

ترابطُ العزّة بالحكمة ترابطٌ جدليّ، إذ لا عزّة إلّا بحكمة ترافقها وتضعها مواضعها الصحيحة، ولا حكمة متعالية إلّا بعزّة تثبّت أقدامها في حركة الحياة، واستيحاءً من ذلك يفهم الأعزّاء معنى الاقتران بين شرط عزّتهم وبين شرط حكمتهم، حتى يكون كلُّ شيء في نصابه، ولئلّا تكون العزّة - بما تعنيه من معاني الإباء والغَلبة - تهوُّراً واستعلاءً أو استكباراً في الأرض.

4- ارتباط (العزّة) بـ(القُدرة):

قال جلّ جلاله: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ (القمر/ 42).

لا يكفي في الغَلبة كسر شوكة المغلوب أو المُنتَصَر عليه، بل لابدّ أن تكون العزّة قوّة قاهرة لا يقوم لها شيء، وأشكال الأخذ القرآني للأُمم المكذِّبة والمعاندة العاصية كاشفة عن معنى العزّة الغالبة والقاهرة والمهيمنة على القوى كلّها (راجع ذلك في إغراق قوم نوح (ع) بالطوفان، وإغراق فرعون بالبحر، وإهلاك الأُمم المعاندة العاصية كعاد وثمود وغيرهما).

5- (العزّة) موهبة ربّانية:

قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران/ 26).

مثلما (العزّة) بيده، (الإذلال) أيضاً بيده، يهبُ الأُولى لمن يستحقّها من الناس، وينزعها عمّن لا يليق بها ولا تليق به، فيبقى أبدَ الدهر ذليلاً، وإن تَوسَّل بوسائل العزّة المادّية كلّها. قال تعالى في العصاة من بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ (الأعراف/ 167).

6- (العزّة) ليست بالكثرة:

قال عزّوجلّ عن لسان المنافقين: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾ (المنافقون/ 8).

ويريدون بالأعزّ (الأكثر عدداً)، والأذلّ (الأقلُّ أنصاراً)، وهو حسابُ مَن لا يحسب للغيب حسابه، ولا يُدخل الله تعالى في حسابه، ولا يرى أبعدَ من قوّة عدَدية محتشدة يحسب أنّها تصنع المعجزات، وهي ليست قادرة حتى على الدفاع عن نفسها إذا جاء أجلها، أو قُوبلت بقوّة العزّة الربّانية من قِبَل أنصار الله وجنوده الذين هم الغالبون.. جيشُ أبرهة الحبشي أُبيد عن بكرة أبيه بطيرٍ من أبابيل ترميهم بحجارةٍ من سجّيل، وجيشُ المشركين في بدر يُهزم على الرغم من قلّة عدد المقاتلين في الصفّ الإيمانيّ، والأمثلة على ذلك كثيرة.

إنّ حديث أو حوار صاحب الجنّتين (البستانين) مع ذلك الرجل الفقير المُعدَم هي قصّة الأنظمة والحكومات مع الأُمم والشعوب: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ (الكهف/ 34)، مقياسُ العزّة عندهم كثرة الأتباع والمؤيِّدين والمجنَّدين ليسَ أكثر.

وهذا يقودنا إلى الحديث عن (العزّة الوهمية المصطنعة أو المُنتَحَلة) ومثالها في القرآن (عزّة فرعون) التي راهن عليها (سَحَرتُه) في بداية المباراة مع موسى (ع): ﴿قَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ (الشُّعراء/ 44).

وما إن تهاوت فُنونهم السحريّة، ومهاراتُهم المادّية، وقواهم العددية، أمام ضربة موسى القاضية، حتى عرفوا أنّ العزّة ليست التي تصوَّروها عند (فرعون) من خلال ظاهر قوّته، وواجهات سطوته، وإنّما هي التي استمدّها موسى (ع) من ربّ العزّة وهو يلقي عصاه بكلّ ثقة واطمئنان.

ولأنّهم (عُقلاء)، قادرون على التمييز بين عزّتين: عزّة أصلية لا تتزلزل، وعزّة مُختلَقة متزلزلة، عزّة شكليّة، وعزّة ثابتة لا تتزعزع، لم يتردَّدوا للحظة في الانحياز إلى عزّة تمسَّك بها موسى 7 فكانت الغلبةُ لصالحه، فيما لاذوا بعزّة السلطان التي تهاوت عندما ابتلعت عصا موسى كلَّ سطوته وجبروته و(عزّته)، وليس عصيّ وحبال السَّحَرة فقط!

7- (العزيزُ) الوجيهُ في قومه:

يصف القرآنُ زوج (زليخا) بأنّه عزيز، بقوله تعالى: ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾ (يوسف/ 51).. وسواء أكان وزيراً للداخلية، أم مديراً للشرطة، أم رمزاً كبيراً من رموز السلطة أو المجتمع، فإنّه (عزيزُ الجانب) له مقامُه المرموق، وموقعُه المميَّز الذي يُمكِّنه من بسط نفوذه في حدود سلطته.

ومثلُ ذلك قول إخوة يوسف (ع) مخاطبينه: ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً﴾ (يوسف/ 78)، وإنّما خاطبوه بـ(العزيز) لموقعه السلطويّ النافذ حيث كان يشغل منصب (وزير المالية والاقتصاد) يومذاك.

وتبقى صفة (العزيز) هنا مُستمدّة من الموقع والعنوان والرتبة أكثر منها (العزّة) الربّانية التي هي محورُ حديث هذا الكتاب، وإلّا إنّنا عندما نتحدَّث عن يوسف (ع) فإنّنا نتحدّث عن عزّتيه: عزّته بالله الذي مَكَّن له في الأرض، وعزّته بصفته وزيراً، والأُولى هي التي يبحث عنها يوسف (ع) ويحرصُ عليها، بل ويسحبها إلى موقعه الإداريّ أيضاً، ليكون عزيزاً بالله دائماً، لا عزيزاً بموقع يأتي ويذهب.

8- الملوك يهابون عزّة الأعزّاء:

عندما قالت بلقيس (ملكة سبأ): ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (النمل/ 34)، أيَّد القرآن وجهة نظرها بالقول: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾، الأمر الذي يشير إلى أنّ (عزّة الأعزّاء) بالإيمان خاصّة، هدفٌ من أهداف الملوك والحُكّام والسلاطين، أي إنّهم يستهدفون إذلال الأعزّاء لتبقى العزّة الوحيدة بأيديهم، فلا يهابُ الناسُ سواهم، ولا يرمقون بعين الإكبار والإجلال غيرهم، ولئلّا ينافسهم في عزّتهم عزيز، وهم يدركون تماماً أنّ (عزّة الإيمان) أقوى من (هيبة السلطان).

ورد في الحديث عن النبيّ (ص)، كما رُوِي عنه: «مَن أراد عزّاً بلا عشيرة، وغنىً بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فلينتقل عن ذلِّ معصية الله إلى عزّ طاعته، فإنّه وجهُ ذلك كلَّه»[1].

وأوحى تعالى إلى داود (ع): «يا داود! إنّي وضعتُ خمسة في خمسة، والناس يطلبونها في خمسة غيرها فلا يجدونها: إنّي وضعتُ العزَّ في طاعتي وهم يطلبونه في خدمة السلطان، فلا يجدونه...»[2]، وبهذا فحتى السلطانُ نفسهُ يعرف أو يعلمُ جيِّداً أنّ (هيبته) سطحيّة، وإنّ (عزّته) وهميّة، وإنّه ما أن يُخلَعَ من منصبه أو عرشه حتى يغدو ذليلاً فزوعاً من جميع الأوصاف والنعوت، حتى من كلمة (عزيز)!

 

 

[1]- ميزان الحكمة، محمّدي الري شهري، ج6، ص291.

[2]- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج78، ص453.

ارسال التعليق

Top