• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المؤمن صاحب الإنسانية مع أخيه

المؤمن صاحب الإنسانية مع أخيه

◄الإنسان في التصوّر الإسلامي، قمّة الكائنات الحيّة، التي تعيش على وجه البسيطة، وأفضلها وأكرمها؛ لما أودعه الله فيه من مزايا، وميّزه من صفات.

والإسلام يريد أن يعيش الإنسان جوِّ الاطمئنان، والاستمتاع بالحياة الإنسانية استمتاعاً يرفع الإنسانية فوق مستوى الاحتكاك والصِّراع والشك.

وإنّ المؤمن في نظر الإسلام هو المحسن، والمحسن هو صاحب الوجدان الرّفيع، وهو صاحب الإنسانية في سلوكه مع نفسه، ومع غيره.

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء/ 1)، فالله سبحانه وتعالى أوجد الإنسانية من نفسٍ واحدة، وأنشأ من هذه النفس زوجها، ومنهما نشر في الوجود رجالاً كثيراً ونساء، فالإنسانية تنتهي إلى تلك النفس الواحدة.

وقد أوضح هذا بقوله في آية أخرى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم/ 21).

وقوله تعالى في الآية السابقة: (وَبَثَّ منهُما)، أي: نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها، بطريق التوالد والتناسل، رجالاً كثيراً ونساء.. وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور.

وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (الأنعام/ 98)، فالله هو الذي أنشأ الإنسانية من نفسٍ واحدةٍ، وهي الإنسان الأوّل الذي تسلسل منه سائر الناس، بالتوالد.. وهو آدم (ع).

وفي إنشاء جميع الناس من نفسٍ واحدةٍ آياتٌ بينات، على قدرة الله وعلمه، وحكمته، ووحدانيته.

وفي التذكير بذلك إيماءٌ إلى ما يجب من شكر نعمته، وإرشادٌ إلى ما يجب من التعاون والتعارف بين البشر. وأن يكون هذا التفرُّق إلى شعوبٍ وقبائل مدعاة إلى العمل الجاد، والتعاون الصادق، لا إلى التعادي والتقاتل، وبثّ روح العداوة والبغضاء بين الناس.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13)، فالله خلق الناس متساويين من أصلٍ واحدة، هو آدم وحواء، وصيّرهم بالتكاثر جموعاً عظيمة، وقبائل متعدِّدة؛ ليتمّ التعاون والتعارف، وإن تباعدت ديارهم وأوطانهم، وتباينت عاداتهم، واختلفت لغاتهم وأجناسهم.

وقال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22).

وللناس مع بعضهم روابط وثيقة، وصلاتٌ متينة، ومعاملاتٌ لا غنى لهم عنها. وليس بميسورٍ لأيِّ إنسانٍ كائناً ما كان أن يعيش منعزلاً عن الناس والمجتمعات. والطبيعة البشرية تحتِّم على الإنسان أن يندمج بالناس، ويختلط بهم، ويستعين بذوي الخبرة منهم، وأن يسترشد بنصح الناصحين، وتوجيه النابهين.

وإذا كان من الضرورة الإنسانية في الإسلام أن لا حياة للأجسام إلّا بالأرواح، فكذلك الأعمال على اختلاف أنواعها لا حياة إلّا بالثقة المتبادلة التي يجتنى من ورائها الاطمئنان والنجاح. فبالثقة تنتظم الأمور، وتنجز الشؤون، وتستقيم الأعمال، وتؤدَّى المصالح إلى أحسن حال. والثقة لا تتحقّق إلّا إذا أدّى كلُّ إنسانٍ ما عُهد إليه، وما ألزم به نفسه.

فبالثقة وحدها يسعد الناس، ويصلون إلى الفوز والفلاح، والتعاون المثمر، وإذا انعدمت الثقة ذهب الاطمئنان، وأصبح كلُّ إنسانُ يخاف الآخر، ولا يطمئن إليه في أمرٍ من الأمور، ولن تكون الثقة إلّا عن صدقٍ ووفاء. فليس من الإيمان أن يؤتمن الإنسان على مالٍ فيجحده، أو على عرضٍ فيهتكه، أو على سرٍّ فيذيعه، أو على عملٍ فيهمله، أو على نصرة صديق فيخذله.

وقد لا يخفى على باحثٍ أنّ انبعاث رسول الله (ص) كان منعطفاً تاريخياً في حياة الناس جميعاً، وتحوّلاً حضارياً متميِّزاً في نهج حياتهم وتعاملهم. تحوّل الخطاب فيه من قومية الأديان، ومحدودية مقاصدها، إلى عالمية الإسلام، وشمولية دعوته، وتكامل مقاصده، ومن عزلة المجتمعات البشرية وتضادها وتصارعها إلى وحدة الأُسرة البشرية، وتعاون مجتمعها؛ حيث سمع الناس لأوّل مرة في تاريخهم الإنساني فكرة المجتمع الإنساني الواحد.

كما سمع الناس – أيضاً – لأوّل مرّة فكرة التعايش السلمي بينهم من غير تمايز. وكان النبيّ (ص) يعمل على نشر الإخاء الإنساني الذي يتجاوز المسلمين إلى غير المسلمين.

فاهتمام الإسلام بالناس فيه ترسيخ معنى الإنسانية العام في نفس المسلم الذي يقرأ القرآن، ويستمع إليه، ويعمل به. كما أنّ هذا كلّه يبيِّن وحدة الجنس البشري.

والقرآن الكريم لا يخاطب العرب فقط، ولا قومية معيّنة، ولا شعباً معيّناً، بل يخاطب الإنسان بوجه عام.

فالإسلام الحنيف جاء ليقيم بين البشر جميعاً رابطة الإنسانية القائمة على ارتباط البشر بالله الخالق عزّوجلّ.

ومن هنا ندرك: أنّ الإسلام يلائم الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فهو يؤكّد في وضوحٍ أنّ الدين الإسلامي قد نظر نظرةً فاحصةً دقيقةً للإنسان، في ذاته، وتركيب كيانه النفسي، والخلقي، والاجتماعي.

فالحياة في الإسلام.. تخضع لنظامٍ دقيق، لا يسمح لجانب منها أن ينمو على حساب جانب آخر، وإنّما تتوازن جوانب الحياة كلّها على نسقٍ فريد، جاء به الإسلام. وأمّا الأحياء من بني البشر، فإنّ الإسلام نظر إليهم نظرة العارف بأسرارهم، وما يصلحهم.

والشخصية الإنسانية في الإسلام حقيقةٌ حيّة، والأُسرة الاجتماعية في الإسلام حقيقةٌ حيّة. والإسلام لا يهدم شيئاً من كيان الاجتماع الذي استفاده بنو الإنسان من أطوار حياتهم الاجتماعية في الحقب الطوال؛ لأنّ المفهوم من سير الهداية الإلهية، كما يسردها القرآن الكريم: أنّ حياة النَّوع الإنساني.. تاريخٌ متصل، يُتِمُّ بعضه بعضاً، وتنتهي إلى التعارف بين الشعوب والقبائل، في أُخوّةٍ عامة، لا فضل فيها لقومٍ على غيرهم إلّا بالعمل الصالح.

ولهذا يحرص الإسلام على كيان الاجتماع في الشخصية الفردية، وفي الأسرة، وفي الإيمان بوحدة النَّوع.►

ارسال التعليق

Top