• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أثر التكنولوجيا المعاصرة على القيم الجمالية

د. أياد محمد الصقر

أثر التكنولوجيا المعاصرة على القيم الجمالية

◄إذا كانت التكنولوجيا المعاصرة قد أضافت إمكانيات جديدة للإنسان لم تكن موجودة من قبل، مما ضاعف من قدرة الإنسان على الإبداع الفني، وأضافت فنوناً جديدة لم تكن موجودة من قبل مثل فن السينما الذي يعد من إنتاج التكنولوجيا وأضافت أجهزة جديدة لعرض الأعمال الفنية مثل التلفزيون والكمبيوتر، أسهمت الأدوات الجديدة في اكتشاف صور وأشكال من الجمال بل وأدى هذا لا ستحداث قيم جمالية جديدة لم تكن موجودة في الحضارات القديمة والعصور السابقة.

وأسهم هذا في تحرر الفن من كافة القيود المتوارثة عن التراث الكلاسيكي السابق، وأدى هذا إلى ظهور رؤى جديدة للواقع والحياة، وتأثر الفن بالعلم الحديث والتكنولوجيا في تصوره للمكان مما غيّر من طبيعة الفنون المكانية بعد إضافة الزمان بوصفه بُعداً رابعاً للمكان، فأصبح المكان يفيض بالحركة وينطلق بالقوى والإمكانيات وأدى هذا لظهور النحت الفضائي الذي يعتمد على أهمية الفراغ في تشكيل علاقات مختلفة مع الكتلة، وأضيفت مواد جديدة على الفنون والاستخدامات الفنية فظهرت لنا فنون متطوّرة ومتحدثة نتيجة لاستخدام التكنولوجيا المتعددة الأشكال والأهداف.

والفن هو تكنولوجيا الروح بهذه العبارة المثيرة للجدل يقوم الشاعر الأمريكي روبرت كاندل، أحد رادة القصيدة الرقمية في الولايات المتحدة، لموقعه على شبكة الإنترنت الذي يحمل عنوان "دوائر الكلمة Word Circuits" يبادر كاندل إلى شرح نظريته في كتابة الشعر إلكترونياً بقوله: "كلّنا يعرف أنّ الشعر والتكنولوجيا شأنان متوازيان لا يتقاطعان، إلّا حين نتذكر أنّ الكتابة ليست سوى ضرباً من التقنية أيضاً" ففي أي اتّجاه سوف تتحول تقنيات الكتابة الحديثة في مجاراة عصر الإعلام الرقمي؟ وهل ستنتقل أدوات الكتابة الإبداعية، نتيجة لهذا التحول في حال وقوعه، من عوالم الحبر إلى إحداثيات "النقاط الضوئية Pixels" محققة نقلتها النوعية من طواعية القلم إلى غواية الحرف الإلكتروني على الشاشة؟ وما الذي يميز النص الرقمي عن مثله البكر على الورق؟ وهل تعتبر تجربة الكتابة على الكمبيوتر جواز سفر للكاتب إلى عالم الحداثة وما بعد الحداثة؟ وهل من مفرّ من سطوة نزعة "البصري" في أنّ الكتابة مقابل "الشفوي" والحسي التقليدية للقصيدة الكلاسيكية؟ أوَليست الثقافة فعلاً تراكمياً لا يُلغي المستحدَث منه قديمَه بل يعبئه ذخراً في مسيرة الحضارة الإنسانية، وبناءً عليه فإنّ فعل الكتابة بالقلم؟ يتحدث كاندل عن الهدف من كتابة ما دعي في البدء بـ"النص على الشبكة Hypertext" فقال: "هما أمران:

الأول: يتعلق بالإضافات والتحسينات التقنية التي يمكن أن تعزز من بنية النص وتحيله إلى مشهد بصري دنياميكي مسرحي الأداء والهيئة، وهذا ما لا توفره الكتابة على الورق بالطبع". يستطيع قارئ القصيدة الرقمية متابعة هذا التلوّن المشهدي بين مؤشر الحركة، وتقنية الموسيقى، وتمايل الكلمات حتى الثمالة في مجريات قصيدة "اليقين Faith" على موقع كاندل على شبكة الإنترنت حيث يتمكن من متابعة الكلمات تنبت وتضيء على الشاشة وتحوم حكومتها في مد وجزر، أخذٍ ورد، قبيل أن تتساقط متهالكة إلى بعضها البعض وكأنها تؤدي مشهد الحياة منذ ولادة أول الكلام، مروراً ببناء جسم النص المتحوّل، حتى لحظة تداعيه القدري إلى نهاياته في عمق المشهد، كلّ في طقس من المتعة والإثارة البصرية والذهنية لا يضاهيان. ويردف كاندل قائلاً: "دافعي الآخر لكتابة القصيدة الرقمية هو رغبتي في إعادة الاعتبار إلى بيئة الإنترنت الافتراضية فيما وُصمت به من تلوث بهجمات مخترقي الأنظمة والفيروسات التخريبية ومواقع الصور الخلاعية وأفلام العنف والإثارة، مؤكداً على تفوق هذا الإنجاز الخارق في عالم الاتصالات من جهة، وأهمية الثقافة الرقمية وما تبشّر به من نشر للفن والإبداع في كلّ جهات الأرض من جهة أخرى". هذه النقلة النوعية من حال التعامل مع أدورات عضوية طيّعة وحسية كالورق والحبر إلى عالم يحكمه منطق الطاقة والتكنولوجيا شكلت منعطفاً جدلياً لم تشهده الكتابة الإبداعية منذ فجر الطباعة في القرن الثاني عشر. وسرعان ما انقسم الكُتّاب في شأنها إلى مؤيِّد متحمس، أو حيادي غير آبه، أو معارض يرى في كتابة الشعر على الشاشة تخريباً للحالة الحسية الشعرية التي  قوامها مثلث الورق، والحبر، والقلم ما يربط بينها من علاقة كاريزماتية ساخنة. فهل تشكل التكنولوجيا عائقاً في طريق تحليق الشاعر في ملكوت أحلامة أم أنّها تطلق عنان مخيلته حيث لا حدود ولا شكل نهائي لكتابة القصيدة، وحيث الباب مشرع على كلّ الاحتمالات في البناء والهدم ثم إعادة البناء في أسراب من حروف ضوئية تنطلق في حرّية لا تحدها حدود وتتشكل في ملايين الاحتمالات والمتحولات الصياغية للغة والحس معاً؟ يقول كاندل: "في العام 1990 عندما شرعت في كتابة القصيدة الإلكترونية لم أكن أعرف أي شخص يمارس الكتابة الإبداعية على الشبكة ولا كان للشعر الإلكتروني تسمية اصطلاحية في حينها أفضل من اسم هايبرتكست التي عرفق بها نصوصي في ذلك الوقت.. وحدها كانت طيوري تحلق في ذلك الفضاء الإلكتروني المطلق". بجعات القصيدة المتوحشات جمهور القصيدة الرقيمة هو حكماً أكثر تنوعاً وخصوصية من جمهور القصيدة المطبوعة ويتسم بهُويّة عالمية. والقصيدة الرقمية لا تشغل اهتمام قارئ الشعر فحسب بل يتلوّن جمهورها من مشتغل في ميدان الفنون البصرية وتطبيقاتها التكنولوجية إلى أكاديمي متخصص في علوم الاتصالات والإعلام. يقول كاندل في هذه الشأن: "تندرج قصائدي الرقمية في المناهج التعليمية للمعاهد والجامعات الأمريكية، وتصلني الكثير من الرسائل الإلكترونية من قرائها على الشبكة ممن يتجاوبون مع هذا اللون من الإبداع على عكس الحال في شأن قصائدي المطبوعة فنادراً ما أتلقى رسائل في شأنها". وتتقدم القصيدة الإلكترونية على نظيرتها الورقية لجهة خاصية الأداء التي يُحيلها عالماً مسرحياً متحولاً ومفتوحاً على كلّ الاحتمالات حيث تتقاطع عرضها الدرامي المؤثرات الصوتية مع حراكية الحروف. وتتحول إلى استعارات بصرية ولغز مشرع على اختيارات لا نهائية. حالة التحولات هذه تجعل من اللغة عالماً ديناميكياً متحرراً من ثقل المكان والزمان والمادة وتحيل الكلمات إلى أسراب من البجع الوحشي المنتشر في فضاء الشبكة اللامتناهي. لا تنتفي الحالة العاطفية في القصيدة الإلكترونية، ولا تلعب التقنية هنا دوراً سالباً لجهة الحالة الحسية والعصبية للقصيدة بل إنّ المؤثرات الصوتية والبصرية تزيدها عمقاً، وتعرض القارئ لخاصية التجربة التفاعلية دونما إملاءات من طرف الشاعر. وقد تطوّر عن القصيدة الرقمية لون إلكتروني آخر يدعى "قصيدة الومضة Flash Poetry" وهي تعتمد كلياً على برنامج العروض التفاعلية (Macromedia Flash) الذي يؤسس لهيكلية جديدة للقصيدة يكون القارئ مشاركاً فيما وتحكماً في  بنائها عن طريق مفاتيح جهاز الكمبيوتر في محاولة لإيجاد بديل بصري للوزن والقافية. وفي محاكاة وإعادة صياغة للقصيدة التقليدية في صيغة إلكترونية مستحدثة من خلال إدخال تحسينات تكنولوجية تطبَّق على بنية النص الشعري الأصلي. وتنضم قصيدة الومضة إلى سلالة القصيدة الرقمية في مرحلة متقدمة تتداخل فيها الكلمة، بالصورة بالموسيقى، لتشكل مجتمعة بديلاً شعرياً بصرياً هو الأجرأ في تاريخ تدوين الشعر منذ بدء الكتابة. علم الجمال واختراق المسافة إلى أين يسير هذا الكائن الشعري المستولد من رحم التكنولوجيا؟ وكيف يلتقي الدماغ الإلكتروني مع سيّاله العصب الدافقة وفي أي موقع يفترقان؟ وهل لا ينبض الشعر إلّا حبراً كما يؤمن بعض الشعراء المتعصبين لسياسة القلم والورق أم أنّ مدّ التكنولوجيا قد استوعب أيضاً دفقات الروح تماماً كما اخترق المسافة نحو الآخر القصي؟ وهل في علوم الاتصالات ما يقربها من شرط الحالة الشعرية وإشكالاتها؟ قد تتزاحم الأسئلة وتتناقض الإجابات بالتوازي وجدلية المسألة قيد البحث، إلّا أنّ بيت القصيد هو اللغة عينها كواحدة من أقدم وسائل الاتصال البشري في عصر الاتصالات الرقمية. ومما لا شك فيه أنّ الشعر، ذلك المخلوق اللغوي في أحسن تقويم، إنما يحاول اختزال القدر الأكبر من الكونيات في صور بيانية وحسية، ومن ثم ضغطها في استعارات ومجازات لغوية محمِّلاً إياها مساحات من الزمان والمكان في محاولة لاختزال العالم في لحظة إبداعية أزلية. وفي هذه  الآلية ما يقارب إلى حد بعيد مساحة شبكة الإنترنت كونها تختزن في نقاطها الضوئية كمّاً لا متناهياً من المعلومات تبثه شاشات الكمبيوتر في كلّ بقاع الأرض سواسية. وعن مستقبل القصيدة الرقمية يختم كاندل بقوله: "اعتقد أنّ علم الجمال سيظل يفاجئنا بمستحدثاته مضيفاً المزيد من التفرد والتميز النوعي على الكتابة الرقمية كلما تطورت تكنولوجيا البرمجيات". وحين تصبح الشبكة الوسيلة الأكثر سرعة واقتصاداً لنشر القصيدة وتداولها يكون المنتصر الأكبر في انقلابات الحداثة هذه هو الشعر.►

 

المصدر: كتاب دراسات فلسفية في الفنون التشكيلية

ارسال التعليق

Top