• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسلوب النقد السليم

أسلوب النقد السليم

◄يروي (س) تجربته مع النقد سواء في توجيهه للآخرين أو في استقباله منهم، فيقول:

بحثت في تراثنا الإسلامي الأخلاقي عن استعمال للفظة (نقد) فلم أجد، ووجدت مفردات بديلة مثل (التسديد) و(إهداء العيوب) و(إقالة العثرات) و(الوعظ) و(المحاسبة) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(النصيحة) ..

والتقيتُ ـ في أثناء البحث ـ بأساليب (نقدية) تربوية رائعة ومنها هذان المثالان :

فلقد جرى حوار بين الإمام موسى الكاظم (ع) في (العصر العباسي) وأحد أصحابه المعروفين (صفوان الجمّال) الذي كان يؤجّر جماله إلى (هارون الرشيد)، فقال له :

"كلّ ما فيك حسن ما خلا خصلةً واحدة".

فتوجّه صفوان بكلّ مشاعره لهذه الخصلة، قائلاً :

ـ وما هي يا مولاي !

فقال: "اكراؤك الجمال من هذا الرجل (ويقصد هارون)".

فاللاّفت هنا أنّ الإمام الكاظم (ع) ابتدأ بنقد صفوان بطريقة مهذبة ولطيفة ورقيقة لم يشعر معها بالجرح أو الحرج، بل بالعكس تفتحت مسامعه كلّها للاستماع إليها .

فحينما تقول لإنسان (كلّ ما فيك حسن) فإنّك تبتدئ بالإيجابي، ولقد رأيت ـ من خلال تجربتي ـ أنّ الابتداء بالنقاط الإيجابية يجعل (المنقود) مستعداً لتقبّل النقد .

ومثل ذلك (نقد) الإمام جعفر الصادق (ع) لشخص منحرف اسمه (الشقراني) حيث قال له :

"الحسن من كلّ أحد حسن وإنّه منك أحسن لمكانك منّا، وإنّ القبيح من كلّ أحد قبيح وإنّه منك أقبح لمكانك منّا".

فالإمام هنا بدأ بالنصيحة بأمر إيجابي أيضاً (الحسن من كلّ أحد) كما إنّه ركّز على أنّه محسوب على المسلمين، ومَن كان منهم حريّ به أن يكون في مثل أخلاقهم .

ولقد جرّبت ذلك فوجدت أثره عظيماً، فهو أسلوب رفيق رقيق ليس فيه تجريح ولا تشهير ولا تسقيط .

وكنت قد استفدت أيضاً من قول آخر للإمام الصادق (ع) في أسلوب النقد السليم، ذلك هو "مَن وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ومَن وعظه علانية فقد شانه".

فرأيت أنّ النقد والوعظ والنصيحة في حضور الآخرين لها مردود سلبيّ على نفسية (المنقود) وقد يكون عكسياً، أي قد تجعله يتشبّث بموقفه وخطئه، وأنّ المحاسبة والنصيحة البينيّة، أي بينك وبين صاحبك تأثيرها أعظم .

بهذه الأساليب الرائعة تحوّل نقدي للآخرين إلى عملية إهداء للعيوب بالحكمة والموعظة الحسنة. وقد عَلّمني أحد الإخوة درساً عملياً آخر .

فلقد أسأتُ إليه بكلمة جارحة فتألّم منِّي لكنّه كتمها في نفسه ولم يبدها في الحال، فزرته في بيته بعد يومين لاعتذر إليه فاستقبلني مهللاً مرحباً، فقلت: إنّها بداية طيِّبة.. ويبدو أنّه تناسى كلمتي، فقلت له :

ـ لقد جئتك معتذراً .

فقال باستغراب: عن ماذا؟!

قلت: عن الخطأ الذي صدر منِّي قبل يومين .

قال: لقد استغربته منك في حينها، لكنني حينما رجعت إلى نفسي، تذكّرت أنّ لدي أمثال هذا الخطأ الكثير، فعذرتك !

وفي الحال تذكّرت الحديث الشريف الذي يقول: "خيرُ إخوانك مَن نسب ذنبك إليه وذكر إحسانك إليه". ومن يومها وأنا أحمل تصرّفات إخواني على الوجه الحسن، وأجد لهم العذر، فإذا لم أجد خلقت لهم عذراً من عندي، وبهذا طابت صحبتي معهم وصحبتهم معي !

أمّا تقبّلي لنقودهم وملاحظاتهم فجاء نتيجة عهد عهدته مع نفسي أن لا اتسرّع في الدفاع عن نفسي، بل أترك للملاحظات النقدية فرصة المراجعة، فإن كنتُ كما يقولون غيّرت وعدّلت وبدّلت، وإن كنت ليس كما يقولون غفرت لهم واستغفرت .

كما تعاهدت مع بعضهم على أن نكون مرايا فعلية لبعضنا البعض، أي أن أنقل له ملاحظاتي عنه بصراحة تامّة، وينقل لي ملاحظاته ومؤاخذاته بصراحة كاملة، ولم ننسَ أن نضع ذلك كلّه في إطار من المودّة والمحبّة والحرص المتبادل والإخلاص فيما بيننا.►

ارسال التعليق

Top