البصيرة هي القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكلة من عقل الإنسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه، وهي ما نصطلح عليه بالوعي قد يكون الإنسان ذا بصر حاد لكنه ذو بصيرة عليلة ضعيفة {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فالإنسان إذا فقد البصيرة فإنه يتورط في التشخيص الخطأ للأشخاص وللأمور. فالإنسان العاقل الذي يعي الواقع ويدركه ويعرف الناس من حوله، أي أنّ لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرف وما هو عدل وما هو ظلم وما هو حقّ وما هو باطل، فالخير منه مأمول لأنه مستقيم في فكره وفي عمله. قد تلتبس الأمور والأشخاص والعناوين على البعض لأنّ قدرته على الفرز والتشخيص بين من هو صادق ومن هو كاذب أو من هو على حقِّ ومن هو على باطل ضعيفة. لذلك تراه يقع فريسة الخداع والتضليل. أما إذا كان صاحب بصيرة نافذة فإنّ مقدرته على التمييز ستكون كبيرة بمعنى أنه سيتمكن من تصنيف الناس فلا يضعهم جميعاً في خانة واحدة، وخير تعبير عن امتلاك الوعي الكامل والبصيرة النافذة التي لا تهتز أمام الالتباسات ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) {وإن معي لبصيرتي لا لُبست ولا أُلتبس علي}، أي إنّ من كان تلميذ مدرسة الإسلام والقرآن والنبوة لابد أن يكون واعيا للدرجة التي لا ينطلي عليه أي شيء ولا بداخله شك ما هو فيه من قناعات. أصحاب البصائر أصحاب حجج وبراهين وشواهد مقنعة فهم لا ينطلقون إلا من وعي ولا يتحركون إلا بوعي ولا يحكمون إلا بدليل ولا يشهدون إلا على ما رأوه بأم أعينهم.
ففي الحديث جاء رجل إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وسأله: «كيف يمكن أن يرى الحقيقة؟ فقال له: كما ترى كفك. أي أن يكون الشيء ماثلاً أمام عينيك فلا يتطرق إليك أدنى شك. صاحب الوعي والبصيرة لا يقول على شيء أنه حق وعلى آخر أنه حقيقة إلا بعد أن تكون علائم الحقّ والحقيقة واضحة كالشمس أو ككفه. أصحاب البصائر والوعي الراجح لا يصدقون الأقوال على علاتها ولا يأخذونها على عواهنها أو أخذ المسلمات والبديهيات. وإنما يطرحون أسئلة تقودهــم إلى معرفة الحقيقة، من هو القائل؟ وماذا قال؟ ولماذا قال ذلك؟ وأين قاله ومتى؟
وماذا عن أقوله السابقة؟ وكيف قاله؟ وفي أي سياق جاء؟ وما إلى ذلك لأنّ الإجابة عن هذه الأسئلة ترفد البصيرة بزخم من الوعي كبير ولا يمكن للإنسان أن يكون بصيراً وهو مكبل يعيش الانقياد والتبعية لغيره، فالوعي يتطلب الهواء الطلق ليتنفس فيه لأنّ كلام الناس وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وتجمعاتهم وأحزابهم تشكل ضغوطاً وشروطاً قاهرة تحد من حرية التفكير واستقلاله وإذا حددت الحرية أو قيدت البصيرة فإنها تكون بين أحد خيارين إما أن تطفئ أنوارها لتغط في الظلام وإما أن تكون إمعة تساير الناس والمسايرة انقياد أعمى وليس بصيرة.
الإنسان عليه أن يتأمل في كيفية تشكيل قناعاته في هذه الحياة أي جزء منها هو نتيجة السائد والموجود وأيها هو نتيجة جهد شخصي عليه أن يتأكد من أنّ خياراته وأعماله وأفكاره وخطواته وانتمائه هي نتيجة فهمه وإيمانه هو وليست انعكاساً لآراء الآخرين وخياراتهم وانتماؤه الناجم عن التعصب دون معرفة وتدقيق، وعلمه بما تقوم به جماعته وأهله وناسه وتجمعه وحزبه ومجتمعه، على الإنسان أن يشكل قناعاته الحقيقية من خلال الفهم العميق للأشياء وليس تعصباً لها، وهذا هو البناء المتين للشخصية التي لا تهزها الأزمات.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق