• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تقويم المجتمع بفريضة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»

الشيخ نعيم قاسم

تقويم المجتمع بفريضة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»

◄قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104).

 

فريضةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسمى الفرائض وأشرفها، تُقوِّم الأفراد والمجتمع، وهي واجبة على كلِّ واحدٍ منّا بحسب دوره وقدرته.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)، فسَّرها المفسرون على وجهين، الأوّل: فلتكن منكم مجموعة من أصل عامة المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والثاني: تقول للشخص مثلاً: كن أنت كذلك، وأنت تقصد أن يكون فيشمل الأمر جميع المسلمين ويحمِّلهم المسؤولية.

(يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)، الدعوةُ إلى الخير دعوةٌ إلى كلّ ما ينسجم مع مصلحة الإنسان، وهي خيرٌ ومعروفٌ وإحسانٌ وعطاء، فالصدقةُ خيرٌ، والكلمةُ الطيبةُ خيرٌ، والمساعدةُ خيرٌ، والعفوُ خيرٌ... وكلُّ طاعةٍ لله تعالى خيرٌ، فما أمر الله تعالى به كله خيرٌ.

(وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)، المعروفُ هو كلّ خيرٍ وعمل حسن، فالصدقةُ معروفٌ، والكلمةُ الحسنة معروفٌ، وإزاحة الأذى عن الطريق معروفٌ، ومساعدة المحتاج معروفٌ...

(وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، المنكرُ هو كلُّ شرٍّ أو معصية أو انحراف، فشربُ الخمر منكرٌ، والغِيبَةُ منكرٌ، والسرقةُ منكرٌ، والأذيةُ منكرٌ، والظلمُ منكرٌ، وما كان محرماً فهو منكرٌ. نستنتج أنّ الواجب والحلال معروفٌ، والحرام منكرٌ.

(وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)، الذين يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، هم الفائزون، في الدنيا بنجاحهم في أداء تكليفهم بشكلٍ صحيح وسليم، وفي الآخرة بمكافأة الله تعالى لهم بالجنة.

ذكر الفقهاء أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي، يعني إذا ما قام به البعض سقط عن البعض الآخر، لكن إذا لم يقم به أحد، فالجميع مأثومون، إلى أن يقوم به بعضهم. وهو مختلف عن الواجب العيني، أي الواجب على كلِّ فردٍ بعينه، كالصلاة التي لا يقوم بها أحدٌ مكان أحد، فهي واجب بني على كلِّ مكلف. فالهدف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تتحقق نتيجته، فيبقى واجباً على الجميع إلى أن يسقط بقيام بعضهم به.

الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر من ضرورات الدين، التي إذا أنكرها الإنسان خرجَ من الدين، فإذا أنكرَ وجوب الصلاة، أو أنكرَ وجوب الصوم، أو أنكرَ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أنكر ضرورة من ضرورات الدين، ومن أنكرَ ضرورةً من ضرورات الدين خرج من الإسلام، وهذا الأمر يختلف عن التقصير في أداء الصلاة أو الصوم أو التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يكون المقصِّر مذنباً وليس خارجاً عن الدين.

 

1-    مسؤولية الجميع:

قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران/ 110). لماذا اعتَبَرَنا الله تعالى خيرَ أمة؟ هذا التوصيف ليس لقباً لمكانةٍ مجانية، بل وصفٌ لجماعةٍ قامتْ بعملٍ صالح مؤثِّرٍ في الحياة، فأمَرتْ بالمعروف ونَهتْ عن المنكر، انطلاقاً من إيمانها بالله تعالى والالتزام بأوامره.

لاحظ معي، الخطابُ موجَّه إلى الجماعة ليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويؤازر بعضهم بعضاً لأداء هذه الفريضة على مستوى الأُمّة، فمجتمع المؤمنين مجتمعٌ متكامل بين أبنائه، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71). هذا الواجب العظيم الملقى على عاتق المؤمنين مُقوِّمٌ من مقومات عظمة المسلمين وموقعهم كأُمّةٍ خيِّرة، يؤدون دورهم المطلوب في هذه الحياة، وهو لا يخص فئةً من الناس، أو من علماء الأُمّة، بل يشمل الجميع، فالآثار تقع على الجماعة بأسرِها.

للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائرةٌ عامة تنهض بها الجماعة في المجتمع، ودائرةٌ خاصة بكل فرد بحسب مسؤوليته وسلطته وتأثيره، وهو واجبٌ عملي يتحقق بالقيام به، بصرف النظر عن نتائجه.

يجب فهم حدود وضوابط التكليف الشرعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للقيام بهما، فقد تلتبس المفاهيم عند البعض ويستهتروا أو يتركوا هذه الفريضة العظيمة جهلاً أو انحرافاً، وحذار من خطر قلب المفاهيم للتملص من هذه المسؤولية، بتحويل الحق إلى باطل، والباطل إلى حق. فقد حذر رسول الله (ص) أصحابه فقال: "كيف بكم إذا فسدت نساؤُكُم، وفَسَقَ شبابُكُم، ولم تأمروا بالمعروفِ، ولَمْ تنهوا عن المنكرِ. فقيل له: ويكونُ ذلك يا رسول الله؟ فقال: نَعَمْ، وشَرٌّ من ذلك، كيفَ بكُمْ إذا أمرتُم بالمنكر ونهيتُم عن المعروف. فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نَعَمْ، وشَرٌّ من ذلك، كَيْفَ بكم إذا رأيْتُمُ المعروف مُنكَراً والمنكَرَ معرُوفاً".

 

2-    متى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟

أربعة شروط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

الأوّل: العلم بهما، بأن تعرف المعروف والمنكر، والحلال والحرام، وذلك بحسب تعريف الشريعة، وليس بحسب الاعتبارات والاجتماعية أو الاهواء الشخصية.

الثاني: أن تحتمل التأثير في الطرف الآخر الذي تأمره بالمعروف أو تنهاه عن المنكر، فإذا لم تحتمل التأثير فيه، فليس من واجبك أن تأمره بالمعروف أو تنهاه عن المنكر، ومع عدم وجود القابلية لدى الطرف الآخر، يسقط التكليف عنك، إذ لا فائدة من أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر.

الثالث: أن يستمر العاصي بالمعصية ويصير عليها، فلنفترض أن أحدهم ارتكب معصية (استغابة، نميمة، سرقة...) ثمّ تاب إلى الله تعالى، فلا محل للأمر أو النهي. أمّا إذا استمر بالمعصية، فالمجال متاح لأمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر.

الرابع: أن لا يكون في موعظته أو إنكار العمل عليه مفسدةٌ أو ضررٌ عليك، فلو نهيتَ شخصاً، فكان ردُّه عليك بالشتيمة أو الإيذاء، فهذه مفسدةٌ وضررٌ عليك، ما يُعفيك من واجب أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، ويُسقطه عنك.

عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا ما توفرت هذه الشروط الأربعة، على المستوى الفردي مع أهلك وجيرانك وأصدقائك ومن لك علاقة به، وعلى المستوى الجماعي في السياسة والإصلاح الاجتماعي وتعميم الفضائل ورفض الرذائل، بما يتطلب أحياناً تضحية استثنائية تتطلب توجيهاً من الفقيه المتصدي..

مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاث: قال رسول الله (ص): "من رأى منكم منكراً فليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان". الإنكار باليد، والإنكار باللسان، والإنكار بالقلب. وقد رتبها فقهاؤنا من الأدنى إلى الأعلى، إنكار القلب، ثمّ إنكار اللسان، ثمّ إنكار اليد. أي أنّ أوّل النهي بالإنكار القلبي الذي يعبِّر عن الرفض النفسي، وهذا ما يمكن تحقيقه عند جميع الناس. فإذا لم يغير الإنكار بالقلب الواقع، يتم الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الإنكار باللسان، بالموعظة والنصيحة والزجر والتوبيخ بحسب الحالة. فإذا لم ينفع، يتم الانتقال إلى المرتبة الثالثة وهي استعمال اليد مع وجود القدرة، أي استخدام السلطة والقدرة والقوة المتمثلة باليد، ما يساعد على المعالجة.

مثال: تُنكرُ معصية ولدك بقلبك فلا يمتنع، ثمّ تعظه وتزجره بلسانك فلا يمتنع، ثمّ تمنعه من الذهاب مع أصدقائه أو تحرمه من المال أو تقفل التلفاز وهذا من استعمال اليد.

مثال آخر: تُنكرُ الرذائل التي يرتكبها بعض الشباب في الحي بظلم الناس أو الاعتداء على ممتلكاتهم أو استخدام الألفاظ الفاحشة وذلك بقلبك فلا ينفع ذلك، ثمّ تنتقل إلى الموعظة والزجر باللسان فلا ينفع ذلك، ثمّ تتعاون مع بعض أهل الحي لمناصرة المظلومين ووضع حدٍّ لهؤلاء ضمن الاستطاعة، وهذا هو استعمال اليد.

 

3-    النتائج:

يقول رسول الله (ص): "إنّ الله عزّ وجلّ لَيُبْغِضُ المؤمنَ الضعيف الذي لا دين له. فقيل له: وما المؤمن الذي لا دينَ لَه؟ قالَ: الذي لا يَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ".

يجب على كلّ إنسان مؤمن أن يقوم بهذا الواجب ولو بأدنى المراتب، فلا يكون راضياً عن المنكر.

وعن أمير المؤمنين عليّ (ع): "إنّما هَلَكَ من كان قَبْلَكُمْ حيث ما عملوا من المعاصي، ولم ينهَهُمُ الربانيُّونَ والأحبارُ عن ذلك، وإنَّهُمْ لمّا تمادَوْا في المعاصي ولم ينهَهُمُ الربانيُّونَ والأحبَارُ عن ذلك نَزَلَتْ بهمُ العقوبات. فأمروا بالمعروفِ، وانهوا عن المنكر، واعلموا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يُقَرِّبا أجلاً، ولَمْ يقطَعا رِزْقاً"، فلا يعتذر الإنسان لعدم نكرانه المنكر خوفاً من أن ينقطع رزقه، فالرزق على الله تعالى، ولديه مراتب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليقم بما يستطيع وفق الشروط الأربعة المذكورة أعلاه.

أوحى الله تعالى إلى النبي شعيب (ع): "يا شعيب، إني مُهلكٌ من قومك مئة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم.

فقال شعيب: هؤلاء الأشراء، فما بال الأخيار؟

فقال تعالى: داهَنُوا أهلَ المعاصي، فلم يغضبوا لغضبي".

انتبه من غضب الله بسبب مسايرة أهل المعاصي من دون أن تنهاهم أو تبتعد عنهم عند عجزك عن التأثير بالنهي.

وعن الرسول (ص): "لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البرّ، فإن لم يفعلوا ذلك، نُزعت منهم البركات، وسُلِّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء".

 

4-    كيف نتعامل مع أهل المنكر؟

قال أمير المؤمنين عليّ (ع): "أمَرَنا رسول الله (ص) أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مُكْفَهِرَّةٍ"، ليدركوا أخطاءهم، وعدم موافقتنا لأفعالهم، وإصرارنا على دعوتهم إلى الخير. وقال (ع): "أدنى الإنكار أن يلقى أهل المَعاصي بوجُوهٍ مُكْفَهِرَّة"، فليشعر صاحب المعصية أنك غير فرح بلقائه، وأنّه غير مرحب به بسبب معصيته، إذ يمكن لهذا التصرف أن يرجعه إلى صوابه، وعلى كل حال فصحبة أهل المعاصي تأخذ إلى المهالك، لأنّهم يروِّجون لمعاصيهم، فتتعرض لاحتمال ارتكابها بمعاشرتهم.

إنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوِّم المجتمع، وتعدِّل المسار، وتنقذ من المعاصي والآثام، فقم بواجبك لتنقذ نفسك من المسؤولية.►

 

المصدر: كتاب مفاتيح السعادة

ارسال التعليق

Top