قد تعتقد الأُم، خاصة العاملة، أنّ اللعب مع الطفل هو بمثابة ترف في أحسن الأحوال، ومضيعة للوقت الثمين في أسوئها. لكن هذا اعتقاد خاطئ. لماذا؟
يُعد اللعب من الأنشطة الضرورية لتطور وتعلُّم الطفل بطريقة صحية. وهو أهم وسيلة يتعرف الطفل من خلالها إلى العالم المحيط به. إذ يتعلم من اللعب أكثر مما هو متوقع. فهو يساعده على وضع حجر الأساس للوصول إلى المعرفة الحقيقية، وعلى تلبية الاحتياجات الاجتماعية والعاطفية، واكتساب المهارات الضرورية للحياة، وعلى النمو والتطور بطرق صحية مختلفة. يحب الطفل اللعب لأنّه يوفر له المتعة ويفسح أمامه المجال ليوجد مع أطفال آخرين ويختار أنشطته بنفسه. يمكن أن يكون اللعب هادئاً أو صاخباً، فوضوياً أو منظماً، ممتعاً أو جاداً، شاقاً أو لا يتطلب الكثير من الجهد. ويمكن أن يتم داخل المنزل أو خارجه ويتطور مع نمو الطفل ومع التغيرات التي تطرأ على حياته.
أسباب ودوافع:
يلعب الطفل لأسباب عدة. ففي بعض الأوقات، يستكشف الطفل ويتعلم أشياء جديدة أثناء اللعب. وفي أوقات أخرى يعزز ما يعرفه أو يمارس مهارة ما. كما يمكن أن يكون اللعب وسيلة لبناء أو تعزيز علاقة ما. غالباً ما يلعب الطفل لمجرد اللهو والاستمتاع. ويحتاج الطفل إلى الوقت كي يطور لعبه. لذلك، يحب أن تكون لديه أماكن مخصصة للعب داخل وخارج المنزل. وفي الغالب، يستمتع باللعب مع أطفال آخرين، كما يحتاج إلى دعائم في اللعب مثل ألعاب مختلفة ومعدات وأغراض حقيقية. ويحب أن يختار بنفسه متى وأين وكيف ومع من يلعب. لكن، وبسبب انتشار تأثير وسائل الإعلام الإلكترونية، كالتلفزيون، الأفلام، أشرطة الفيديو، أقراص الفيديو الرقمية، الحواسيب ألعاب الفيديو، أصبح الطفل يمضي وقتاً أطول أمام الشاشات ووقتاً أقل في اللعب بإبداع مع الأطفال الآخرين. إنّ التغيرات التي طرأت على حياة الأطفال الصغار اليوم، عملت على تقويض اللعب الإبداعي الذي يفتح نوافذ التعليم أمامهم، ويعرّفهم إلى الحركة، وملاحظة ما يدور من حولهم، وإقامة العلاقات، وتعزيز مشاعرهم الإيجابية، والكثير الكثير. وبما أن وقت اللعب هو وقت التعلم بالنسبة إلى الطفل الصغير، على الأُم أن تركز على "الألعاب المفتوحة" مثل المكعبات والصلصال والمعجون، التي تعطي الطفل الفرصة للإبداع وخلق تجارب تعليمية جديدة، كما يجب أن تشتري له أنواعاً مختلفة من الألعاب، لأن ذلك يساعد على تعلم الطفل مهارات وخبرات مختلفة. فالكتب المصورة، أو القصص، تساعده على التركيز. الكرات تساعده على تطوير التنسيق والمهارات الحركية. في كثير من الأحيان، يفضل إعطاء الطفل مجموعة قليلة من الألعاب شرط أن تكون مختلفة، من إعطائه مجموعة كبيرة من الألعاب المعقدة. على الأُم أن تخصص وقتاً كافياً للعب طفلها، لأنّه يحتاج إلى ذلك حتى يتمكن من اكتشاف النشاط الذي يمارسه والتعرف إليه، أو من تأليف قصة من بنات أفكاره. لذا، هو قد يشعر بالإحباط إذا تمت مقاطعته مراراً أثناء اللعب، أو تم اختصار وقت اللعب. فالطفل الصغير يحتاج إلى وقت في كل ما يفعله، مثل مضغ الطعام، التعرف إلى دمية جديدة، بناء هرم صغير من المكعبات، اختراع لعبة جديدة بالتعاون مع أطفال آخرين. من هنا، يجب على الأُم أن تسمح لطفلها باللعب لأوقات طويلة من دون مقاطعة، ليطور خياله وليتعلم التفاعل مع الآخرين.
تجارب ودروس:
كلّ نشاط يقوم به الطفل، هو بمثابة تجربة يتعلم منها دروساً. مثلاً، يتعلم التفاعل من الابتسام في وجه الآخرين أو المكاغاة. ويتعلم أن لكل فعل ردة فعل، ويتعلم مبدأ الجاذبية والسبب والنتيجة من إلقاء ألعابه أو طعامه أرضاً. ويتعلم أنّ الصور تمثل كائنات حقيقية، من النظر إلى الصور في كتاب مصور. ويكتسب القدرة على السيطرة على العضلات، من دحرجة الكرة. ويتعلم الاعتماد على النفس في التماس الراحة، من عناق لعبة محشوة على شكل حيوان أثناء النوم. ويتعلم التوازن، من بناء أبراج أو أشكال مختلفة من مكعبات تختلف، من حيث اللون والحجم. وهذا بدوره يعلمه السيطرة على العضلات والتنسيق. انتقاء ثيابه بنفسه وارتداؤها لوحده، يكسبانه مهارات تساعد على فهم العالم من حوله بنفسه. التظاهر بأنّه رجل إطفاء، يعلمه أهمية الحياة الاجتماعية، وهذا بدوره يعلمه أهمية العمل الجماعي والمشاركة. لعل من أوضح الأمثلة على دور اللعب في تعلم الأطفال الصغار، هو صوت الخرير الذي يصدر عنهم. لا أحد يُعلّم الطفل الرضيع إصدار مثل هذا الصوت ومع ذلك كل الرضع يخرون. أثناء الخرير، يبتدع الطفل أصواتاً تشبه أصوات كل حرف من أحرف اللغة التي يحتاج إلى تعلمها عندما يبدأ الكلام. وعندما ينضج الطفل، يختار من بين الأصوات التي ابتدعها بنفسه، تلك التي تتماشى مع أصوات أحرف الكلمات التي تستخدمها الأُم. إذا لم يخر الطفل الرضيع، فهو لن يتعلم الكلام أبداً. هناك أمثلة قليلة أخرى يمكن أن تساعد على إعطاء صورة أوسع عن دور وأهمية اللعب في التعلم. منها على سبيل المثال: أنّ الطفل الذي يسقط شيء من يده على الأرض يكتشف الجاذبية. والذي يضع كل ما تطاله يده في فمه، يكتشف أن بعض الأشياء صلب والبعض الآخر طري، وبعضها حلو المذاق والبعض الآخر مر وطعمه سيئ جدّاً. وعندما تضع الأُم طفلها في كرسيه يضرب كلّ شيء يقع تحت يده بالكرسي. وفي عمله هذا، يكتشف أنّ الملعقة الخشبية تصدر صوتاً يختلف عن صوت الملعقة المعدنية وعن الملعقة المصنوعة من البلاستيك. في كلّ من هذه الأمثلة، نكتشف أنّ الأنشطة التي يقوم بها الطفل الرضيع لوحده من دون توجيه من أحد، هي التي تخلق أنماطاً جديدة من التعليم الذاتي. علماً بأننا نرى النمط نفسه من التعلم الذاتي عند الأطفال الأكبر سناً أيضاً. فغالباً ما يعيد الأطفال في عمر السنتين أو الثلاث سنوات، النشاط نفسه مراراً وتكراراً. مثلاً، يمكن أن يبني برجاً من المكعبات الخشبية ثمّ يهده ويعيد بناءه ثانية. يمكن أن يمل الشخص الكبير من التكرار. لكن الطفل الأقل ذكاءً وأقل ضجراً، يتعلم من كلّ إعادة شيئاً جديداً، إذ يمكن أن يلاحظ أشياء عند الإعادة لم يلحظها في التجارب السابقة.
إنّ الأطفال في عمر أربع وخمس سنوات يبتدعون أيضاً تجارب تعليمية جديدة، وذلك عندما يبدأون اللعب الدرامي، كتقمص دور طبيب أستاذ، رجل أمن... إلخ. إن تولّي الطفل أياً من هذه الأدوار، يولد لديه الإحساس بأنّه يمتلك السلطة والقدرة الكاملة تماماً مثل الكبار. الأطفال هم أشخاص يقعون تحت رحمة الكبار. لذا، عندما يتخيل الطفل أنّه امتلك قدرات وصلاحيات تجربة الكبار، يعزو شعوره بالعجز إلى كونه يقع تحت رحمة الكبار. من هنا، يمكن أن نعتبر اللعب وسيلة من وسائل التخفيف من الضغط.
الأطفال في سن المدرسة يتعلمون أيضاً من خلال تجارب التعلم الذاتي. عندما يضع الأطفال قوانين اللعب ثمّ يخرقونها أثناء لعبهم "الغميضة" مثلاً، فهم يتعلمون الاحترام المتبادل. أي أنّهم يطيعون القواعد التي يضعها الأطفال الآخرون، ويتوقعون أن يتبع الأطفال الآخرون القوانين التي وضعوها هم. بالإضافة إلى ذلك، عندما يلعب الأطفال ألعاباً مثل الداما أو المنوبولي، فإنّهم لا يتعلمون فقط الاستراتيجيات، ولكن قراءة لغة جسد اللاعبين الآخرين أيضاً. وهذا يعني، أنّه كلما أتى اللاعب بحركة يثير ردة فعل (تجربة تعليمية جديدة) اللاعبين الآخرين.
دور حيوي:
يلعب اللعب أيضاً دوراً حيوياً في تطور الطفل في مجالات عدة، منها:
- التطور الاجتماعي والعاطفي: يؤدي اللعب إلى زيادة كفاءة الطفل الاجتماعية ويعزز من نضجه العاطفي. ويرى التربويون أن جزءاً كبيراً من النجاح في المدرسة، يعتمد إلى حد بعيد على قدرة الطفل على التفاعل إيجابياً مع الأنداد والكبار. واللعب يمكّن الطفل من ممارسة مهارات التواصل الاجتماعي اللفظية وغير اللفظية، من خلال التفاوض على توزيع الأدوار، ومحاولة إقناع الطرف الآخر بالاستمرار في اللعب، والتعبير عن تقدير مشاعر الآخرين. ومن خلال التجاوب مع مشاعر الأنداد أثناء انتظار الدور، ومشاركتهم ألعابه وخبرته. كما يمكّنه من التعرف إلى وجهات نظر الآخرين أثناء العمل على حل النزاعات حول لمكان والألعاب والمواد الأخرى، بطرق إيجابية. كما يدعم اللعب التطور العاطفي عبر توفير وسيلة للتعبير عن المشاعر والتعامل معها. إنّ اللعب المزعوم (لعب دور طبيب، مدرس، رجل أمن... إلخ). يساعد الطفل الصغير على التعبير عن مشاعره بطرق عدة، منها: تبسيط الأحداث من خلال خلق شخصية وهمية تتماثل مع وضعه العاطفي. مثلاً، الطفل الذي يخاف من الظلام، قد يتخلص من خوفه عبر لعب دور رجل أمن. ومنها أيضاً، تجنب الآثار السلبية عن طريق التظاهر بأن شخصية أخرى، حقيقية أو وهمية تقوم بتصرفات غير مناسبة وتعاني العواقب. إنّ الطفل الذي لا يُسمح له إلا مشاهدة برامج تلفزيونية معينة، قد يتظاهر بأنّه سمح لدميته بمشاهدة أي برنامج تختاره بنفسها، ثمّ يوبخها على أساس أنها "طفل سيئ" لم يلتزم بقوانين مشاهدة التلفزيون.
- التطور الجسدي: يسهم اللعب في تطوير مهارات الطفل الحركية (استخدام العضلات الصغيرة مثل عضلة اليد والإصبع، والعضلات الكبيرة مثل عضلة القدم والساعد). إن تعلم الطفل استخدام أي أداة للكتابة أو الرسم، هو خير مثال على تطوير الحركة الدقيقة عنده. كما أنّ "النطنطة" تساعد على تطوير العضلات الكبيرة. إنّ اللعب النشط مثل القفز فوق شيء مرتفع قليلاً، نط الحبل، لعب الكرة بأشكالها المختلفة، يزود الطفل بالطاقة ويُكسب المفاصل المرونة ويقوي العضلات.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق