إنّ نظام الاعتقاد في الإسلام هو الأساس لنظام القيم، فإذا كانت العقيدة في الإسلام تقرِّر أنّ الله سبحانه قد خلق الإنسان ليكون خليفةً في الأرض، فإنّ نظام القيم هو مجموعة المبادئ والمعايير التي تستهدف ضبط السلوك البشري وتوجيهه؛ لتحقيق الاستخلاف البشري في الأرض.
وإذا كانت تلك العقيدة تقرر أنّ الله الخالق قد خَلَقَ الإنسانَ في أحسن تقويم، وأنّه كرّمَهُ بتسخير أشياء الكون وظواهره له، وأنّه فضّله على كثير ممّن خلق تفضيلاً بالعقل والإرادة، فإنّ النفس البشرية وكرامتها وحياتها هي قيمةٌ عالية الشأن، وهو ما جعل حفظ النفس المقصد الضروري الأوّل من المقاصد الكلّية للشريعة. ولذلك فإنّ التشريعات الإسلامية وهي تنُصُّ على حُرمة النفس الإنسانية وصيانتها من أي ظلم أو اعتداء، إنّما تؤكد البُعد القيمي والأخلاقي للشريعة الإسلامية في كلِّياتها وجزئياتها على حدٍّ سواء. ثمّ إنّ الإنسان لا يعيش إلّا في مجتمع، فالتجمُّع الإنساني فطرةٌ بشرية؛ وليس ثمّة تجمع دون نظام ومعايير وقيم يقبل بها المجموع ويرتضونها. وهذه القيم لابدّ أن تتصف بما تتصف به القيم من: ثبات واستقرار، وتنظيم في حَمل المسؤولية، ووَزن وعائد ومنفعة، واستقامة في نيَّة الإنسان وحسن سلوكه.
وهكذا ينشأ الإنسان منذ ولادته على القيم الفاضلة التي يتشرَّبها الفرد من الأُسرة، حيث البيئة الأُولى للتربية على هذه القيم الفطرية. ولما كانت الأُسرة هي وحدة بناء المجتمع، وكان لها هذا الدور الكبير في التربية على القيم، فإنّ إصلاح المجتمع ولا سيّما في مجال القيم والأخلاق، إنّما يبدأ في الأُسرة.. فالأُسرة في التفكير الإسلامي هي مستودعُ القيم. ومثلما أنّ الأُسرة قيمة في حدِّ ذاتها، فإنّها تختزنُ في مكوناتها قيماً ذات شأن عظيم في الوجود البشري، فكلُّ مفاهيم الأُسرة: الأُمومة، والأُبوة، والبنوة، والعمومة والخؤولة...، قيمٌ ذات شأن عظيم في منظومة القيم الإسلامية؛ ذلك أنّها جميعاً مشتقة من المفهوم الإسلامي العميق، مفهوم الرَّحِم، وهو مصطلحٌ قرآني أصيل، يحمل قداسةَ خاصّة، ويمثِّل رابطةً فطرية تربط الأُصول والفروع، ولذلك لم تكن صلةُ الرَّحِم مسؤولية اجتماعية فحسب، بل هي عمل تعبدي.
فمن بين سائر الأُمم منّ الله تعالى على أُمّتنا الإسلامية العزيزة الجاه عنده، الرفيعة المنزلة لديه، برسول جاء بشريعة سمحة تطهر العقول، وتزكي النفوس وتهذّب الطباع. شريعة تطهّر العقول من إدراك الإلحاد والشِّرك، بعقيدة توحيدية كونية شاملة، تحلق بالعقول السليمة إلى أقصى آفاق المعرفة، وتنهض على أقوى الأدلة وأوضح البراهين. شريعة تزكي النفوس بشعائر العبادات، فتحقق في الإنسان قمة السمو الروحي، والإخاء الإنساني، والتحرر النفسي، والمساواة بين يدي ربّ العالمين، شريعة تهذّب الطباع بتعاليم خلقية هي غاية ما تحلم به البشرية في أرقى مدارج رقيها وتقدّمها الحضاري.
قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران/ 164). وإنّ الشيء الملموس والمحسوس في شريعتنا الإسلامية الغرَّاء هو أنّ الأخلاق الفاضلة هي الإطار العامّ لكلِّ ركائزها العقيدية، وقواعدها التشريعية، فهي سمة عامّة مشتركة يتسم بها الإسلام:
* نجدها في طلب العلم، كما نجدها في المعارك الجهادية، يقول تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه / 114). فهذا مظهر من مظاهر التواضع النفسي في طلب العلم والاستزادة منه، كما أنّه صورة تجسيدية من صور الإقرار بالنقص والاعتراف بالعبودية للخالق الفرد الصمد.
ويقول سبحانه: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/ 190). فقواعد العدالة والنبل والخلق الرفيع، محفوظة في الإسلام، حتى مع الأعداء حين تشتبك الأسنة وتستعر الحرب.
* ونلحظ هذه السمة في أُصول المجادلة مع أهل الكتاب، كما نلحظها في مجالات الإنفاق والبرّ والإحسان. يقول عز وجل: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125). فليس الخلاف في الرأي أو العقيدة، مدعاة إلى إساءة الخلق أو استعمال القسوة والشدّة، بل إنّ منهج الإسلام العظيم يحضُّ على حُسن الخلق باعتباره خير وسيلة إلى الإقناع والهداية والرشاد.
* ويقول سبحانه: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة/ 263). وقال جلّ جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى) (البقرة/ 264). فالمنفق في سبيل الله، والمحسن إلى عباد الله لا ينبغي له أن يمنّ أو يستكثر، لأنّ عمله هذا حسنة، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
* وتتجلى هذه السمة في العبادات، كما تتجلى في المعاملات. يقول سبحانه في تهذيب سلوكية المصلين: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون/ 4-5). وقوله تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى) (النِّساء/ 142). فليس أداء الصلاة، وكذا سائر العبادات يحقق هدف التشريع الإسلامي، إذا خلا من الخلق الكريم والأدب الرفيع والسلوك القويم.
* ويقول عزّوجلّ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النِّساء/ 19). وقال سبحانه: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (البقرة/ 178). فعقود النكاح، وأحكام القصاص والديات وسائر المعاملات والإيقاعات محاطة بسياج من دماثة الخلق الإسلامي الرفيع.
فالأخلاقية الإسلامية صفة مشتركة في كلِّ ما جاء به الإسلام، ومن أجل أن تؤدِّي الرسالة الغرَّاء دورها التربوي في رفعة الإنسان، وتقدّم الحضارة، وسعادة البشرية، على أتم وأكمل نظام ولتصنع الإنسان الكريم. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ اللهَ عزّوجلّ بعثني بها». وجاء رجل إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) فقال له: يا ابن رسول الله، اخبرني عن مكارم الأخلاق؟ فقال (عليه السلام): «العفو عمّن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء مَن حرمك، وقول الحقّ ولو على نفسك». وعن الإمام الرضا (عليه السلام)، عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام)، عن جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «عليكم بحُسن الخلق، فإنّ حُسن الخلق في الجنّة لا محالة، وإيّاكم وسُوء الخلق فإنّ سُوء الخلق في النار لا محالة».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق