هذا هو الخطاب الأوّل الذي تلقاه الرسول (ص) في غار حراء..
إقرأ باسم ربّك
إقرأ وربُّك الأكرم
الذي علّم بالقلم
علّم الإنسان ما لم يعلم
وبهذا الخطاب حدّد الوحي منهج الدعوة وأهدافها، وهو تعليم الإنسان وهدايته عن طريق العلم والوعي والمعرفة، لذا جاء الخطاب الأوّل متحدثاً عن العلم والقراءة والقلم..
وفي موضع آخر يتحدّث القرآن عن قيمة العلم وأثره في حياة الإنسان، وعلاقته بالدين وبمعرفة الله تعالى فيقول: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة/ 11).
(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114).
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 9).
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28).
(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة/ 269).
وإذاً بالإيمان والخلق الرفيع جاء الإسلام، وعلى تلك الأسس بنى دعوته، وخاطب البشرية، وعلى أساس العلم شاد الإيمان قواعده فدعا إلى طلب العلم واستعمال العقل والتفكير، ليكون الإيمان عن بيّنة وبصيرة ووعي، وليس عن جهل وتقليد أو إكراه: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة/ 256-257).
وإذاً فالإسلام يريد أن يخرج البشرية من الظلمات إلى النور لتبصر الطريق، وتسير في سبيل الهدى والسلام.. وليس لها من دليل يوصلها إلى سبيل الهدى الذي دعا إليه الهادي محمد (ص) غير دليل العقل والعلم، لذا اهتمّ الإسلام بطلب العلم والمعرفة.. واعتبره فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة.. وذلك ما يثبته الرسول (ص) بقوله: "طلب العلم فريضة"[1].
ويتضح رأي الإسلام في أهمية العلم المقرون بالإيمان، وتفضيله على العبادة من قراءة موقف الرسول (ص) من مجلسي العلم والعبادة، اللذين شاهدهما في مسجده الشريف.. روى عبدالله بن عمر: "أنّ رسول الله (ص) مرّ بمجلسين في مسجده، فقال: كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله، ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم، وأمّا هؤلاء فيتعلمون الفقه والعلم، ويعلّمون الجاهل، فهم أفضل، وإنما بعثت معلماً، قال: ثمّ جلس فيهم"[2].
ما أروع الكلمة التي أطلقها رسول الله (ص): "إنّما بعثت معلماً".. إنّه التكريم للعلم والعلماء، وللذين يقومون بدور التعليم.. فإنّه يسمّي النبي معلماً.. وبذا ينقل مهام النبوة إلى الإنسان المعلم.. إلى العالم والداعية إلى الله سبحانه، وحامل العلم والوعي والثقافة الهادية.. إنها الكلمة المضيئة في عالم الظلام، والنبراس الهادي في متاهات الجهل، يريد للإنسان المسلم أن يكون عالماً قبل أن يكون عابداً.. يفضل له الاشتغال بالعلم على العبادة، بل العالم هو الهادي إلى طريق الخير والعبادة ومعرفة الله سبحانه.
رحمة مهداة:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).
وفي كلِّ موقع من مواقع السيرة العملية، نقرأ في شخصية الرسول (ص) روح الإنسان المحبّ للإنسانية الذي يسعى بكلِّ جهده لإنقاذها وهدايتها وإصلاحها، فهو لا يحمل روح العداوة والانتقام ولا يريد أن ينزل العقاب بالذين يخالفونه، بل يريد أن يهديهم طريق الحقِّ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الظلم والاستبداد والطغيان، إلى العدالة والحرِّية..
وكم تحدّث القرآن عن أخلاقية النبي الداعية إلى مبادئ تلك الرسالة الإلهية لهذا الإنسان المعرض عن الهداية والإصلاح، عطفاً عليه ورحمة به.. إنّه القلب الكبير والحبّ الصادق للخير.. وكم كان الحزن والألم يشتد في نفسه حين يرى تلك المواقف، حتى خاطبه الوحي مسلياً ومخففاً عن نفسه تلك المعاناة، خاطبه بقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء/ 3).
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف/ 6).
إنّ القرآن في هايتن الآيتين يسجل لنا عظمة مشاعر هذا الرسول (ص) تجاه الإنسان، وهو يحكي في هذا الموقف الرحمة الإلهية والأسف لإعراض الإنسان عما ينقذه ويخرجه من الظلمات إلى النور.
عبّر القرآن عن ذلك بقوله: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (يس/ 30).
ويشتد موقف المواجهة والصراع في ميدان الحرب بين الرسول (ص) وخصومه، فيستنصره أصحابه، ويطلبون منه أن يدعو الله على هؤلاء العتاة باللعنة والانتقام.. ولكنّ الرسول (ص) يرد عليهم: "لم أبعث لعاناً، إنّما بعثت رحمة".
لم أُحضر الجيش في ميدان القتال لأنتقم، ولكن لأدافع عن الحقِّ، ولأنقذ الإنسان.. وإنّي لأدعو الله لأن يحقق أهداف الدعوة، وهي إنقاذ الإنسان وهدايته لما يحقق له الخير والسعادة.
إنّه خلق الإسلام في الحرب والسلم، في الرضا والغضب.. الهداية والرحمة، وليس الحقد والعقاب والانتقام.
روى أصحابه تلك المحاورة الخالدة، وذلك الموقف الرحيم، وروح الحبّ والعطف على الإنسان.. ننقل تلك الروايات كما وردت:
"قيل لرسول الله (ص) وهو في القتال: لو لعنتهم يا رسول الله (ص) فقال: إنّما بعثت رحمة مهداة، ولم أُبعث لعاناً، وكان إذا سئل أن يدعو على أحد، مسلم أو كافر، عام أو خاص، عدل عن الدعاء عليه، ودعا له.."[3].
ويتكرر هذا الموقف الإنساني النبيل من الرسول (ص) حين قيل له: "يا رسول الله إن دوساً[4] قد هلكت وعصت وأبت، فادع عليهم، فقال: اللّهمّ اهد دوساً، وَأْتِ بهم"[5].
ويتحدّث المؤرخون عن موقف مماثل له (ص) في أحد أيّام حصاره للطائف، عندما سأله أصحابه أن يدعو على ثقيف.. روى الترمذي عن جابر أنّ أصحابه (ص) قالوا: "يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم، فقال: اللّهمّ اهد ثقيفاً"[6].
ذلك خُلق رسول الله (ص) في دعوته وجهاده وتعامله مع عدوه، إنّه حامل مشعل النور والهداية للإنسان، وهو الرحمة المهداة.. إنّما يجسد روح دعوته وأهدافها بسلوكه كنبي وداعية إلى الإسلام.
تلك إضمامة من مواقف الرسول (ص) وسيرته العملية ننقلها للقارئ، لكي يتعامل مع وقائع وسلوك عملي فيكون له هدياً ونبراساً ودليلاً في المسير.. ليحقق القدوة والتسامي في سلوكه وتكامله النفسي الأخلاقي، عاملاً بقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21).
[1]- الكليني، الأصول من الكافي، ج1، ص78.
[2]- سن الدارمي، ج1، ص99.
[3]- أخرجه مسلم، ج2، ص24، والبخاري، ج5، ص220.
[4]- دوس: اسم قبيلة وهي قبيلة أبي هريرة.
[5]- أخرجه مسلم، ج2، ص24، والبخاري، ج5، ص220.
[6]- ابن كثير، البداية والنهاية، ج4، ص402، مؤسسة التأريخ العربي.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق