• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإسلام والمسيحيّة.. علاقة جمع وتقارب

عمار كاظم

الإسلام والمسيحيّة.. علاقة جمع وتقارب

في ذكرى ولادة السيِّد المسيح (عليه السلام)، هذه الولادة التي أشار إليها القرآن الكريم بالتفصيل، علماً أنّه لم يشر إلى ولادات غيره من الأنبياء. لكونها كانت ولادة معجزة؛ تمّت بظروف غير عادية، أرادها الله سبحانه أن تعبّر عن عظمته وقدرته، وأن تكون دليلاً على نبوّة هذا المولود الذي تذكّر ولادته بولادة آدم: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران/ 59). هذه المناسبة المباركة.. مناسبة نستلهم منها كلّ المعاني الروحية والإيمانية والقيم التي حرص السيِّد المسيح (عليه السلام) على الدعوة إليها. وقد بيَّن القرآن أنّ العلاقة بين الإسلام والمسيحيّة، أو بين الإسلام والديانات السماوية الأُخرى، جاءت من منبعٍ واحد، وهي تقوم على مبدأ استمرار النبوّات والتكامل فيما بينها، حيث لا تناقض ولا انفصال، إذ تصدّق الرسالة اللاحقة ما سبقها من رسالاتٍ وتكملها، بمعنى أنّها تأتي لتلبّي حاجات البشرية التي استجدَّت بفعل الزمن. ولذلك، نجد القرآن عندما تحدَّث عن رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (آل عمران/ 2-4).

والمتأمِّل في القرآن، كما في معالم السِّيرة، يرى أنّ العلاقة التي طبعت الإسلام والمسيحيّة على وجه الخصوص منذ فجر الإسلام، كان فيها سعي إلى الجمع والتقارب، واللافت في الأمر الذي يجدر التوقّف عنده، هو حرص القرآن الكريم على أن تلامس هذه العلاقة المشاعر والأحاسيس وليس فقط العقيدة، وذلك عندما أظهر الصفات الروحية والأخلاقية التي يتميّز بها المسيحيون، ممّا يساهم في تأسيس علاقة تعايش قوية بينهم وبين المسلمين. قال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (المائدة/ 82)، الأمر الذي أسَّس لعلاقة مودّة قائمة على الإيمان بالله والعبودية له، وعلى المساواة، استناداً إلى قاعدة: (وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).

وقد حثَّ الإسلام على مدِّ جسور الحوار مع المسيحيّة، كقاعدة ثابتة، ولا سيّما في مواقع الاختلاف التي لم ينكرها الإسلام، بل أشار إليها، وحدَّد أسلوب الحوار والجدال حول كلّ الاختلافات، بقوله سبحانه وتعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125)، حتى إنّه يقول إنّه لا جدال ولا حوار إلّا بالتي هي أحسن: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46)، وذلك في سبيل الوصول إلى علاقة قوية تستند إلى القيم المشتركة، المتمثِّلة بكلمة «سواء»: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، عنوانها العبودية لله، والعدل الذي لا يخضع فيه أحد لأحد، لأنّ الخضوع لا يكون إلّا لله (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ) (آل عمران/ 64). إنّ هذه العلاقة الّتي أسَّس لها القرآن الكريم، وترجمها رسول الله في سلوكه ومواقفه وتوجّهاته، وما واكبها من تشريعاتٍ في تلك المرحلة، ساهمت في تعميق أواصر التعاون، والاحترام المتبادل، والأمان المتبادل، والذي كان من ثمراته حفظ الوجود المسيحيّ في بلاد المسلمين.

وحتى لا يبقى الحديث عن موضوع هذه العلاقة نظرياً، سنتوقّف عند مشهد من المشاهد التي حصلت في أيّام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في احترام المعتقد حين قدم وفد نصارى نجران إلى المدينة المنوّرة، رغبةً في الحوار مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد دخل أعضاء الوفد إلى مسجد رسول الله، وهم، كما تذكر السِّيرة، يلبسون أزياءهم الكنسيّة، ويحملون الصلبان في أعناقهم، وقبل أن يبدؤوا حوارهم مع رسول الله، استأذنوه في الصلاة، فأذن لهم رسول الله، فدقّوا النواقيس في المسجد، وصلّوا صلاتهم على مرأى من كلّ المسلمين، وبرضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ألا يشير هذا إلى عمق العلاقة التي أرادها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأرادها الإسلام؟ رسول الله يحاور المسيحيّين في المسجد، ويصلّون فيه صلاتهم.

ارسال التعليق

Top