الإمام السادس من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؛ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، تميّزت حياته (عليه السلام) بأنّها كانت رائعة في عطائها، لأنّ الظروف التي عاشها، كانت الظروف ظروف صراع، استطاع الإمام (عليه السلام) أن يغطِّي كلّ الواقع الإسلامي بالمسائل الفكرية العقيدية والفقهية، بل كان يتحرّك في التنوّعات التي عاشها الناس في المفاهيم المتصلة بحركة الإنسان وبالحياة، حتى إنّ هناك علوماً لم تكن متعارفةً، أو لم يكن متعارفاً أن يثيرها أمثال الإمام الصادق (عليه السلام)، ومنها «علم الكيمياء»، الذي ينقل عنه تلميذه «جابر بن حيان» أنّه هو الذي ألهمه ذلك، وما زالت كُتُب «جابر بن حيان» في الكيمياء تُدرَّس في جامعات الغرب كنظريات كيميائية متقدِّمة حتى الآن.
فالإمام الصادق (عليه السلام) تراث موسوعي، الذي لو انفتح الإنسان عليه، لاستطاع أن يجد جواباً عن كلِّ سؤال يتّصل بالحياة الإنسانية، حتى إنّنا نجد الكثير من الأجوبة عن مفهوم الحرّية، وعن مفهوم العزّة في كلِّ أبعادها السياسية والاجتماعية في حركة الإنسان في الحياة أمام التحدّيات. لا نستطيع أن نلمَّ بهذه الثروة الموسوعية التي أغنت العالم الإسلامي، حتى إنّ الذين رووا الحديث عنه وأخذوا العلم عنه، يبلغون أربعة آلاف شخص، كلٌّ يمثّل أُستاذاً، ولقد دخل شخص إلى مسجد الكوفة، وكان آنذاك ككلِّ المساجد، يجلس فيه الأساتذة ليستقبلوا طلابهم في حلقات متعدّدة، فدخل هذا الرجل ورأى فيه (900 شيخاً)، وكلٌّ يقول: «حدَّثني جعفر الصادق بن محمّد».
إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) كان يستقبل كلَّ الناس، ولم تكن العصبية آنذاك بالمستوى الذي ينفصل فيه المسلمون بعضهم عن بعض، بل على العكس، كانت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) تستقبل كلَّ الناس بحسب تنوّعاتهم المذهبية، ونحن نعلم أنّ «أبا حنيفة» صاحب المذهب الحنفي، كان من تلامذة هذه المدرسة، وهو الذي يقول: «لولا السّنتان ـ اللّتان تتلمذ فيهما على يد الإمام الصادق (عليه السلام) ـ لهلك النعمان». وقد سُئِل: مَن أفقه الناس في عصره؟ فكان يشير إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وكان يستدلُّ على ذلك، أنّ أفقه الناس هو أعرف الناس في عصره، وهو أعرف الناس باختلاف الناس، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يعرف كلّ الاختلافات الموجودة في الواقع الإسلامي، فكان إذا أتيت إليه قال: أنتم تقولون كذا، والفريق الآخر يقول كذا، بحيث كان، وهو الإمام، مهتمّاً بكلّ ما في الواقع الإسلامي من تنوّعات مذهبية، أو تنوّعات فقهية، أو كلامية، أو ما إلى ذلك.
ويُنقل عن «مالك بن أنس»، إمام المذهب المالكي، أنّه قال: «ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً وعِلماً ووَرعاً»، وهكذا نجد أنّ بعض قُضاة المذهب الحنفي، وهو «ابن أبي ليلى»، يقول: «لا يمكن أن أتنازل عن أيِّ رأي من آرائي وأفتي للغير، إلّا إذا كانت الفتوى لجعفر بن محمّد الصادق، فإنّي أتنازل عنها وأفتي بها». ولذلك كان الإمام الصادق (عليه السلام) منفتحاً على الواقع الإسلامي في مدرسته، وكان يجيب الناس بكلّ رحابة صدر، يجيبهم في الصغير والكبير. والإمام الصادق (عليه السلام)، في الوقت الذي كان يؤكِّد مفاهيمه التي تمثّل خطّ أهل البيت (عليهم السلام) في وعي أتباعه وتلامذته ووجدانهم، كان يؤكِّد أن ينطلق الإنسان المسلم في فكره في داخل المجتمع الإسلامي كلّه.. هذا ما نتعلّمه من الإمام الصادق (عليه السلام)، وما نتعلّمه منه هو الكثير الكثير؛ نتعلّم رحابة صدره، وسعة أُفقه، وإحساسه بالمسؤولية عندما كان يجلس مع غير المسلمين، وهم يجلسون إلى جانب الكعبة المشرَّفة، ويستمع إلى كلّ ما لديهم من أفكار مضادة، وكان ينفتح عليهم بالكلمة الطيِّبة، وبالأسلوب الحكيم، وبالحجّة القويّة، لأنّ رحابة الإنسانية كانت في فكره، وفي قلبه، وفي أسلوبه وانفتاحه على الناس، حتى الذين يختلف معهم في الفكر.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق