• ١٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاكتئاب والتقاعد

د. لطفي الشربيني

الاكتئاب والتقاعد

◄كلمة (التقاعد).. أو (الإحالة إلى المعاش).. لا شكّ أنّها تثير في النفوس مشاعر نفسية سلبية غير مرغوبة.. فالتقاعد من العمل يمثل مشكلة نفسية حقيقية خصوصاً وأنّه يرتبط بمرحلة السن المتقدم، ويعتبره الموظفون نهاية رديئة لرحلة العمل الحافلة.. ويرتبط في الأذهان بأنّ الشخص أصبح زائداً عن الحاجة، وأنّه مقبل على مزيد من المتاعب بعد أن يصبح بلا عمل.

وهنا أقدم لك – عزيزي القارئ – رؤية نفسية لمسألة التقاعد من العمل وما يرتبط بهذه المرحلة من مشكلات.. وهموم.. وكذلك الفوائد والإيجابيات التي لا يفكر بها أحد.. وكيف يمكن أن نعد أنفسنا لمواجهة التقاعد.

 

مشكلة اسمها.. (التقاعد):

يعتبر التقاعد من العمل إحدى مشكلات الحضارة الحديثة، ويعني التقاعد أو الإحالة إلى المعاش التوقف عن العمل بالنسبة لمن يشغلون وظائف أو يقومون بأعمال رسمية عندما يبلغون سناً محددة، وكان الإنسان قديماً يظل يعمل حتى يفقد قواه بفعل العجز أو المرض فلم يكن هناك وجود لمثل هذه المشكلة، ومع ظهور المجتمعات الصناعية كان من الضروري تطبيق مبدأ التقاعد لكبار السن لتحقيق التوازن بين شباب العمال والموظفين وتجنب البطالة في الأجيال الأصغر سناً ويبدو ذلك أمر لا مفر منه رغم أنّه لا يأتي على هوى الكبار الذين يرغمون على ترك عملهم في العادة وهم في قمة السلم الوظيفي فيتخلون عن مواقعهم الوظيفية مع ما يتضمنه ذلك من التخلي عن السلطة والنفوذ والوضع الاجتماعي.

وربما كان الإنسان القديم أوفر حظاً في هذا الجانب.. فلم يكن هناك معاناة من النتائج النفسية الثقيلة لنظام التقاعد الحديث نسبياً.. وقد كان سن التقاعد قبل عام 1925 هو 70 سنة، ولا يزال حتى الآن في النرويج 72 سنة، وفي الدانمارك 67 سنة، وفي أمريكا 65 سنة، وفي بريطانيا 65 للرجال، و60 سنة للسيدات، وفي فرنسا ومصر والكويت 60 سنة، ومهما كان العمر الذي تحدده السلطات للتقاعد فإنّ الذين يقومون بأعمال حرة لحساب أنفسهم مثل الأطباء والمحامين والكتاب والسياسيين والفنانين لا يمرون بتجربة التقاعد بل يمكنهم الاستمرار في العمل ما أمكن لهم ذلك دون التقيد بسن معينة يتقاعد بعدها.

 

خسائر.. وهموم.. في مرحلة التقاعد:

إنّ المشاعر النفسية السلبية التي ترتبط بالتقاعد مثل إحساس الشخص بأنّه أصبح زائداً عن الحاجة وأنّ عليه أن يبقى في انتظار الموت تمثل المشكلة الحقيقية للتقاعد، وهذا الجانب النفسي عادة ما يمثل أهم هموم المتقاعدين خصوصاً في الأيام الأولى عقب ترك العمل حين يضطرون إلى تغيير نمط حياتهم بصورة كاملة.. وهذه الفترة تمثل مرحلة حرجة لكلّ المتقاعدين من وجهة النظر النفسية.

ولا يرحب الناس عادة بمرحلة التقاعد.. ولهم بعض الحقّ في ذلك.. حيث يعتبرها الكثيرون فترة خسارة حيث تتابع فيها أنواع مختلفة من الخسائر يترتب بعضها على البعض الآخر، فالخسارة المادية تحدث نتيجة لنقص الدخل الذي يحصل عليه المتقاعد مقارنة بدخله أيام العمل، ويترتب على ترك العمل أيضاً أن يخسر الشخص النفوذ الذي كان يستمده من وظيفته ومنصبه، فبعد أن كان صاحب هيبة لدى مرؤوسيه لم يعد هنا مَن يعبأ به، وهناك الخسائر الصحّية التي تتمثل في ظهور أعراض تقدم السن والشيخوخة تباعاً مع الوقت، وتؤدي الإصابة بأي عجز نتيجة للأمراض خسارة لقدرة الشخص على الحياة المستقلة دون الاعتماد على الآخرين...

فالشخص الذي تعوّد على الاستيقاظ المبكر والذهاب إلى العمل والعودة منه في أوقات محددة على مدى سنوات، وتكوين علاقات متنوعة مع زملاء العمل يواجه صعوبات هائلة للتعوّد على وضعه الجديد حين يضطر للبقاء بالمنزل، وقد لا يكون وجوده بالمنزل مدعاة لسرور أسرته فيشعر بأنّه غريب في بيته، وإذا كان البديل هو مغادرة المنزل فأين يذهب؟.. ربما إلى أحد المقاهي أو للتجول بدون هدف.. إنّ ذلك لا يمكنه عادة من التغلب على الفراغ القاتل.. ويمر الوقت بطيئاً في معاناة قاتلة.. وحسرة على أيام العمل.

 

هل هناك فوائد للتقاعد؟

هناك برامج تم إعدادها لتقديم المعلومات والإرشادات لمساعدة المتقاعدين على التأقلم مع مرحلة التقاعد قبل أن ينتقلوا إليها بوقت مناسب، وتتضمن هذه البرامج تقديم معلومات عن الجوانب الإيجابية للاحتفاظ بصحّة بدنية ونفسية مع تقدم السن مثل العناية بالغذاء، الاهتمام بالرياضة، والوقاية من المشكلات الصحّية المتوقعة في هذه المرحلة من العمر حتى يمكن الاستمتاع بمرحلة التقاعد أو تجنب الخسائر والحصول على بعض الفوائد خلال هذه المرحلة.

ونظراً لأنّ الكثير من المتقاعدين يشعرون بأنّ التقاعد يمثل لهم ما يشبه الوصمة، حيث يبدي بعضهم حساسية وشعوراً بالاستياء لمجرد تسمية (المتقاعد) أو وصف (الإحالة للمعاش) لذا يطلقون على كلّ مَن يصل إلى هذه المرحلة في أمريكا لقب (المواطن الأوّل) (Senior Citizen) كنوع من التقدير والترضية النفسية!! وإلى هنا. تبدو الصورة مظلمة وسلبية غير أنّ هناك جوانب إيجابية في مسألة التقاعد لا يفكر بها أحد.. إنّ فترة التقاعد قد تطول لتصل إلى ربع أو ربما ثلث مجموع سنوات الحياة، ولذلك يجب التفكير في الاستمتاع بهذه المرحلة من العمر، والهروب من مسؤوليات وأعباء العمل شيء إيجابي رغم إنّ كلّ المتقاعدين تقريباً لا يذكرون إطلاقاً مشكلات العمل ومساوئ الالتزام بمواعيده وأعبائه ويفكرون فقط في الأشياء الجيدة والممتعة أيام العمل، ويتحسرون على تلك الأيام ويتمنون أن تعود، وقد يكون التقاعد فرصة مناسبة لإعادة تنظيم الكثير من أمور الحياة، والقيام بأعمال أو ممارسة هوايات لم تسمح بها الارتباطات السابقة أيام العمل لكن الوقت والظروف تسمح بذلك بعد التقاعد.

 

تفاؤل وأمل.. بعد التقاعد:

من الناحية النفسية.. فإنّ الحياة المستقلة في هذه المرحلة أفضل من التفكير في الانتقال للإقامة مع الأبناء والأقارب دون مبرر قوي حتى لا يصبح الشخص عبئاً ثقيلاً على الآخرين، كما إنّ اختيار المكان الذي يقيم فيه الشخص عقب التقاعد قد يساعد على التأقلم فالبعض يفضل الانتقال إلى مكان جديد بعد أن كانت إقامته ترتبط بمكان عمله غير إنّ الأفضل بصفة عامة هو بقاء الإنسان في المسكن الذي تعوّد عليه والمنطقة التي أقام بها ويعرفه الناس من حوله، ومن الأمور الهامة التي نُذكر بها كلّ مَن وصل إلى هذه المرحلة هي ضرورة الابتعاد تماماً عن العادات الضارة بالصحّة مثل تعاطي المواد الضارة أو التدخين لأنّ ذلك يؤدي إلى عواقب سيئة، وإذا كان هناك بعض العذر في ذلك للمراهقين والشباب فإنّ كبار السن لا يجب أن يسهموا عن طريق استخدام هذه الأشياء في تدمير ما تبقى من الصحّة وقد لا يسمح الوقت بتصحيح ما يرتكبه المرء من أخطاء في هذه المرحلة التي تتطلب الاعتدال في كلّ شيء للمحافظة على الاتزان البدني والنفسي.

ورغم أنّ نسبة لا بأس بها من المتقاعدين يمكنهم التأقلم بسرعة مع الوضع الجديد بعد التقاعد إلّا أنّ بعضهم لا يمكنه ذلك، وقد رأينا نماذج لمن يواصلون الذهاب إلى عملهم كما تعودوا من قبل خلال الأيام الأولى للتقاعد وكأنهم يرفضون أن يصدقوا أنّهم قد توقفوا عن العمل، لذلك فإنّ الحل هو التفكير في محاولة القيام بعمل يشبه العمل الرسمي الذي كان يمارسه الشخص ليقوم به بعد التقاعد، فإن لم يتيسر فيمكن التفكير في مجال جديد وتعلم أي مهارة أو هواية مناسبة بصبر ومحاولة الاستمتاع بها في مرحلة التقاعد، ولا داعي لليأس فالوقت لا يزال مناسباً لذلك ولم يفت الأوان.

وهناك تساؤل آخر وأخير نطرحه في نهاية هذا الموضوع.. هل التقاعد نهاية أم بداية؟!.. إنّ الإجابة على هذا التساؤل تظل مفتوحة للنقاش.. فكلا الاحتمالين ممكن.. ومهما كانت السن التي تتحددها السلطات للتقاعد عن العمل فإنّني – من وجهة النظر النفسية – أرى أنّه يمكن أن يكن بداية مرحلة جيدة في حياة الإنسان، أو على الأقل ليست على درجة كبيرة من السوء كما يعتقد بعض المتقاعدين أو من في طريقهم إلى التقاعد.. أي بعد سن الستين أو السبعين وبوسع أي واحد منا أن يعيش بقلب شاب حتى آخر العمر إذا احتفظ بالأمل والتفاؤل وحب الحياة وهذا هو سر الشباب الدائم.►

 

المصدر: كتاب وداعاً أيها الاكتئاب

ارسال التعليق

Top