• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التدبّر في آيات الكون

د. علي حسن عبدالقادر

التدبّر في آيات الكون

◄قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام/ 75).

وقد كان الرسول (ص) قبل أن يأتيه الوحي قد حببت إليه العزلة فكان يذهب بعيداً عن صخب الحياة وضوضائها إلى غار حراء يتحنَّثُ ويتعبَّد ويفكر متأملاً في نفسه وفي هذا الكون الفسيح حوله، ويبقى فيه الليالي ذوات العدد وكان يتزود لذلك، فأخرجت منه هذه الليالي روحه المصقولة ونفسه الكبيرة التي تنشد السلام والطمأنينة وتلتمس بالتفكير والتأمل معرفة الحق والحكمة والفضيلة في عالم مملوء بالباطل والأكاذيب، فعبادة الأصنام ليست حقاً واللهو والجهالات ليست حقاً، والخصومات والتفاخر بين الناس ليس سلاماً وفضيلة، فأين الحق؟ وأين السلام؟ وأين الطمأنينة والفضيلة؟ لم يجدها هذا القلب الكريم إلا بعد أن لاذ بغار حراء متأملاً متفكراً متدبراً في الكون حوله ملتمساً الهداية والمعرفة التي لا تكون إلا بتوفيق من الله الذي يختار صفوته ويقبل عليهم فيقبلون عليه وإذا رزق الله بعده المعرفة والإيمان بعد هذه الدرجة من التأمل والتدبر سكن قلبه واطمأن إلى دعوة الحق له واستجابته لدعوته وخرج من سكرة الحيرة والغفلة إلى بيان الصحو واليقظة، وهنا تصفو نفسه وتشرق لاستقبال عالم الشهود والحقيقة. وهكذا شاءت إرادة الله أن يهدي هذا العقل الحائر ويفك وثاق هذا القلب القلق ما شرق على نبيه المختار من نور المعرفة وأفاض عليه من قبس الإيمان.

 

قد تجلى لقلبه منه نور *** فاستضاءت به من الظلمات

 

وهنا دقت الساعة بالحادث الجلل، وفتحت صفحة جديدة من صفحات الإنسانية المجيدة (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) (النجم/ 10-12).

وهكذا إبراهيم (ع) ينظر إلى السماء في نجومها وشمسها وقمرها باحثاً عن الله حتى يصل بعد تفكر وتدبر إلى معرفة الله الخالق المدبر، (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام/ 75-79).

ونهج القرآن الكريم في الاستدلال والاهتداء هو دائماً بتبصير العقل وإيقاظ الفكر للنظر في آيات الله في ملكوته للوصول إلى معرفة الله معرفة اليقين هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم الزرع والزيتون والنخيل والأعناب. ومن كلّ الثمرات إنّ في ذلك لآية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون والقرآن حافل بدعوة الناس إلى التفكير والتعقل والتدبر لهذا الكون.

وكثيراً ما نعى على الذين لا يؤمنون أنهم لا يستخدمون حواسهم في النظر أو السمع وما عندهم من المواهب (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 171)، والواقع أن نهج القرآن حاسم في أنّه يريد الإنسان أن يكون واعياً ملاحظاً ناظراً متدبراً متعقلاً لما حوله، وينعى على الذين يعطلون هذه المواهب والحواس المقومة لإنسانيتهم مثل أولئك الذين يقلدون ولا يحركون عقولهم أو يبغون الحق والهدى (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (المائدة/ 104).

إنّ هذه الحياة الدنيا ليست حياة عديمة الغرض أو خالية المعنى وان هذا الكون الذي نشاهده ونتحرك فيه يستحق منا أن نتدبره وننشد فيه الخير والحق والجمال، وقد رزقنا الله السمع والبصر والفؤاد لننظر ونعقل ونفكر وكلما دق نظرنا وصح بحثنا كلما ارتفعت معارفنا وسمت نفوسنا وزدنا إيماناً ويقيناً وحباً للخير والحق والجمال.

وبعد فإننا إذا تدبرنا القرآن الكريم وآيات الذكر الحكيم وتعرفنا أهداف آياته المحكمات نجدها جملة وتفصيلاً تهدف إلى دفع العقل البشري إلى النظر في الكائنات والتدبر في ملكوت السماء والأرض وما خلق الله من شيء، وإن من لم يكن له هذه القوة المدركة لا يبلغ درجة اليقين في دينه ولا تتمحكن نفسه من معرفة الله حق معرفته وإذا تمت المعرفة للإنسان وآمن اكتملت له مقومات حياته العقلية والروحية وشرح الله قلبه بالسعة وغمره بالنور والسكينة وألهمه المعرفة من عنده (الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) (الفتح/ 4).►

 

المصدر: كتاب القرآن/ نظرة عصرية جديدة

ارسال التعليق

Top