◄إذا كانت التصورات الجديدة للإبداع قد قربت المبدعين من سائر البشر يبقى الفرق بينهم هو فرقاً كمياً وليس كيفياً. وتأتي دراسة المناخ الإبداعي والعوامل التي توجد في البيئة، من تنشئة اجتماعية وتربية وظروف عمل وقيم واتجاهات ثقافية واجتماعية، لكي تساعد على نمو الإبداع عند أفراد المجتمع أو تعوقه وتعطله، وهذه العوامل تمثل المتغيرات التي تتوسط بين وسائل التنبؤ بالقدرات الإبداعية الكامنة والمعايير التي تحدد الإنتاج الإبداعي الفعلي بعد أن يخرج للوجود.
ولطالما أضفى الناس على العملية الإبداعية صفة السحر وتصوروا المبدع أقرب إلى المجنون. ولما كانت العملية النفسية كما يعرفها علماء النفس تتضمن سلسلة مستمرة من التغيرات أو الوقائع المتتابعة والمعتمدة بعضها على بعض، هذا التعريف بيّن أنّ لعملية الإبداع مراحل أو خطوات تمرّ بها.
1- المرحلة الأولى: هي مرحلة الإعداد والتثقيف وفيها يتاح للمبدع أن يحصل على المعلومات والمهارات والخبرة التي تمكِّنه من تناول موضوع الإبداع، فلا يمكن لشخص أن يبدع في مجال إلّا إذا كان على اطلاع واسع بمختلف جوانب الموضوع؛ فالشاعر الذي يريد إبداع قصيدة شعرية يحتاج إلى نوعين من الثقافة، الأولى: ثقافة عامة أي أن يتزود بالمعلومات اللازمة بمختلف جوانب وألوان العلوم والثقافات فيجب أن يعد نفسه من خلال دراساته الطويلة لعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والتاريخ وغيرها.
بالإضافة إلى النوع الثاني من الثقافة وهي خاصة بعلم اللغة كدراسة الأدب والنحو والعروض.
فالإبداع يأتي نتيجة لجهود طويلة ومستمرة، والتأمل لا ينتهي بالإضافة للإلهام حتى أنّ هذه الخبرات تتراكم وتترتب في الذهن وتشكل خلفية ثقافية معرفية قوية لشخصية المبدع.
2- المرحلة الثانية: هي التي تلي الإعداد، وهي مرحلة الاحتضان والكمون، وهي مرحلة تتميز بالجهد الشديد الذي يبذله المبدع في سبيل حل المشكلة أو إنجاز الموضوع الذي يفكر فيه. وعادة يواجَهُ بصعوبات وعوائق تحول دون تقدمه إلى هدفه، وتسبِّب له إحباطاً يزيد من صيغته وتوتره وتشعره بعجزه، وتهدد تقديره لذاته.
ويفترض الكثير من أصحاب النظريات أنّ المبدع حين يترك التفكير الواعي في موضوعه يكون هناك نوع آخر من التفكير اللاشعوري قد أخذ مجراه، وأنّ هذا النشاط اللاشعوري هو الذي يكون له الفضل في تيسير عملية الإبداع والوصول إلى مرحلة الإشراق التي يتم فيها الحل أو إنجاز المشكلة أو الموضوع الذي يشغل ذهن المبدع.
وهنا نجد عدداً آخر من أصحاب النظريات التي تميل إلى الإقلال من استخدام المفاهيم الغامضة مثل اللاشعور، ويؤكدون أنّ معرفتنا بأنّ الاحتضان يتم في اللاشعور، لا يوصلنا للحل بل هو يبعد مثل هذا الحل عن متناول أيدينا؛ لأنّ اللاشعور لا يخضع للبحث التجريبي أو القياس الكمي.
ويركّز هؤلاء العلماء على محاولة معرفة طبيعة العمليات العقلية التي تحدث خلال هذه المرحلة التي يفضلون تسميتها بمرحلة "كمون الحل"، ويرون أنّ كفاية إنجاز هذه العمليات هي التي تحدد إمكانياته أي شخص في الإبداع، وأنّه لا يمكن الاستدلال على طبيعة هذه العمليات أو الوظائف إلّا من أداء الأفراد أثناء حلهم لبعض المشكلات.
وبعض العلماء يعتقدون أنّ مفهوم الاحتضان يمكن أن يفسر دون اللجوء إلى نظرية النشاط اللاشعوري السائدة عنه، ويعتقد أنّ الإشراق أو انبثاق الحل الماهر بعد تعذره إنما يحدث نتيجة لترك المشكلة جانباً وإعطاء الذهن فرصة ليستريح بعد تشبعه بالموضوع تشبعاً كاملاً؛ فهذا يعطي للذهن الفرصة للتخلص من مجرى التفكير الخاطئ واتجاهه.
ويؤكد عالم آخر أنّ فترة الاحتضان تسمح باختفاء أو ضعف الوجهة الذهنية الخاطئة التي تعوق تكوين الصيغة الجيدة المؤدية لحل المشكلة، ويفترض أنّ ما يحدث للفرد أثناء تركيزه على المشكلة وانغماره فيها هو تثبيت انتباهه على بعض جوانبها فقط، ولهذا فإنّ فترة الاحتضان تمكِّن الصيغ الجديدة والمفيدة في حل المشكلة من الظهور.
ويحدث هذا غالباً على أثر منبهات جدية من البيئة أو دلالات جديدة تنبع من النشاط الفكري للفرد عندما يندمج في أنواع أخرى من النشاط، كما أنّ الرغبة الجارفة في الوصول إلى الحل تؤدي غالباً إلى جعل الانتباه يتركز بطريقة قاصرة وقوية للغاية على الهدف القريب، ويفقد القدرة على النظر إلى الموقف بحرية، ويصبح غير قادر على إدراك أنّ التفافاً بسيطاً حول الموقف يجعله يبلغ الهدف.
والخلاصة أنّ مرحلة الكمون هي مرحلة تنصهر فيها المعلومات وتترتب وتتخمر في الذهن بحيث تكتمل وتنضج بعمل اللاشعور الذي يؤدي وظيفة تفاعل الخبرات والمكتسبات وتهيئة الحل.
3- المرحلة الثالثة: وهي التي تلي مرحلة الكمون والاحتضان وتعرف بمرحلة الإشراق والإلهام؛ وتوصف بأنّها مرحلة العمل الدقيق الحاسم للعقل في عملية الخلق، وقد رأينا كيف أنّها تتضمن انبثاق ومضة الإبداع أي اللحظة التي تولد فيها الفكرة الجديدة التي تؤدي لحل المشكلة عن العالم أو تبلور الفكرة العامة للقصيدة عند الشاعر، ولهذا فهي ترتبط بفكرة الإلهام التي تحدث عند كثير من الفنانين والعلماء.
ومرحلة ظهور الفكرة تأتي بعد تأمل طويل وفي أحيان كثيرة على شكل غير منتظر بعد جهد طويل وعمل شاق من النشاط الذهني المتواصل. ومهما قيل عن الإبداع أنّه إشراق وإلهام وحدس إلّا أنّه لا يحصل إلّا بعد علم وجهد طويل وشاق ومُضنٍ.
4- مرحلة التحقيق: وتتضمن الاختبار التجريبي للفكرة المبتكرة في العلم، وبناء وتفصيل الفكرة العامة في الفن. وفي كثير من الأحيان نجد المرحلتين الأخيرتين تتداخلان معاً دون فاصل زمني بينهما، إذاً في مرحلة التحقيق يتم التأكد من صحّة وصدق النتيجة فيما إذا كانت تشرح الواقع وتبلغ الهدف أم لا، والذي يتتبع نمو الفكرة الجديدة في رأس العبقري سيجد أنّها ظهرت نتيجة لجهد كبير وعمل طويل.
وأوضح أحد الأبحاث أنّ الفكر المبدع عند الشعراء والفنانين يمكن تقسيمه إلى أربع مراحل هي:
أ) الاستعداد أو التأهب، وفيها يجمع لدى المبدع عدد من الأفكار والتداعيات ولكنّه لا يقبض عليها تماماً، فهي تفلت منه بسرعة.
ب) الاحتضان والتخمر، وفيها تبرز فكرة عامة وتعود إلى الظهور من حين لآخر بشكل لا إرادي أو لا شعوري.
ج) تتبلور الفكرة التي برزت في المرحلة السابقة وتظهر أكثر وضوحاً وإشراقاً.
د) ينسج المبدع حول هذه الفكرة ويضيف إليها التفاصيل.
خطوات عملية الإبداع:
إنّ أهم المحاولات في تفسير عملية الإبداع وتحديد خطواتها قدمها (هاريس) وهي:
1- وجود الحاجة إلى حل المشكلة.
2- جمع المعلومات.
3- التفكير في المشكلة.
4- تخيل الحلول.
5- تحقيق الحلول أي إثباتها تجريبياً.
6- تنفيذ الأفكار.
ورأى بعض الباحثين أنّ مراحل عملية الإبداع لا تحدث بطريقة منظمة ومرتبة، بل إنّها تتداخل وتمتزج في أوقات معينة خلال عملية الإبداع؛ بحيث إنّه من الممكن أن نرى خلال العملية الكلية للإبداع إحدى المراحل تتغلب على غيرها.
وذكر "شتاين" أنّ تقسيم عملية الإبداع إلى مراحل يتبدّى في ثلاث مراحل فقط هي:
1- المرحلة الأولى: تكوين فرض: وتبدأ بالإعداد وتنتهي بتكوين فكرة منتقاة من بين عدد كبير من الأفكار تتراءى للفرد.
2- المرحلة الثانية: اختبار الفرض: لتحديد صلاحية هذه الفكرة من عدمه.
3- المرحلة الثالثة: الاتصال بالآخرين: لتقديم الإنتاج الإبداعي حتى يستجيبوا له ويتقبلوه.
علماً أنّ هذه المرحلة الأخيرة تصدق على الإبداع في العلم وفي الفن على السواء وهي لازمة وضرورية للمبدع.►
المصدر: كتاب الإبداع ذروة العقل الخلّاق
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق