• ٥ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٥ | ١٤ جمادى الثانية ١٤٤٧ هـ
البلاغ

التعددية الثقافية ثراء التنوع

إبراهيم المليفي

التعددية الثقافية ثراء التنوع

في هذا العالم الواسع تتعدد الأعراق والجنسيات، وتتعدد الثقافات أيضاً، وتنشأ أي ثقافة في ظل وجود مجموعة عرقية متجانسة، تجمعها مصالح متشابهة أو تكمل بعضها بعضاً، هذه هي الثقافة المتنوعة.

 ولكن التعددية الثقافية هي المجموعة التي تحتوي أكثر من ثقافة متنوعة، ولكنهم يعيشون معاً في منطقة من العالم في سلام ودون صراع، ويتعزَّز هذا الأمر في ظل القبول بالوجود المتجاور، ويمكن للمجتمع أن يصبح ثريّاً بسبب الحفاظ على هذا التنوع وتشجيعه.

ويمكن أن تنشأ سلطة واحدة تضمُّ أطراف هذه الثقافات، مثلما حدث في كندا، التي تضمُّ كندا الفرنسية وكندا الإنجليزية، ومثل المملكة المتحدة التي تضمُّ إنجلترا واسكتلندا وويلز، أو يتم عن طريق الهجرة كما حدث في أمريكا، ولكن تلك مجتمعات قويَّة في بلاد متقدمة، بينما هناك العديد من المجتمعات قليلة العدد وشبه المعزولة وفي حاجة للحماية.

الثقافة نتاجٌ فكريٌّ يقوم به بعض الأفراد ذوي المواهب الخاصة، كتَّاب وشعراء وفنانون ونحَّاتون ومصممو مبان وأزياء، أي إنها نتاج أفراد، وتنوع بعدد البشر الذين يساهمون فيها، وبعدد الجماعات والمجتمعات، لذا فالتنوع هو ضرورة إنسانية ومطلب اجتماعي، ويتطلب الأمر الاعتراف بهذا التنوع وفي حقه في الوجود والتعبير، وتجريم من يُصادر أي ثقافة على المستوى الأخلاقي والقانوني، لأنّ الإنتاج الثقافي هنا يعدُّ نوعًا من التراث يحفظ لهذه الجماعة هويتها.

 

كائن مثقف

ويؤكد علماء الأنثروبولوجيا أن الإنسان كائن مثقف حتى لو لم يكن يعرف معنى الثقافة، وقبل أن يعرف سبب الاختلاف بين طبيعة الأفراد، لأنّ لديه حالة فطريَّة من الوعي، تجعله يدرك ماذا يختار ومتى يُقبل على الأخطار وكيف يتفاداها، وكيف ينظم الظروف من حوله بحيث تضمن له البقاء، وهو دون أن يعي يؤسس لثقافة ما أو لتقاليد سوف يتبعها أولاده من بعده، وإن كانت الحاجة قد دفعت الإنسان إلى إيجاد ثقافته وتنوعها، فإنّه كذلك كان يفعل ذلك مدفوعًا نتيجة حبه للتملُّك، فحب التملُّك هو غريزة أخرى، دفعته إلى أن ينوع في ثقافته وفق احتياجاته، فعندما صنع الإنسان أدواته الأولى، هدته غريزته ألا يُسلمها لغيره، لأنه سيحتاج إليها مرة أخرى، تمامًا كما يحتفظ بقوته، فهو لا يريد أن يسيطر عليه شخصٌ آخر، وهذا ما تطور عبر حقب التاريخ التالية إلى ما يعرف اليوم بالملكية الفكرية.

 

التعدديَّة أسلوب عصري

اختارت منظمة اليونسكو يوم 21 مايو من كل عام ليكون يومًا للتنوع الثقافي من أجل التنمية وتعزيز الحوار بين الثقافات المختلفة، وقد نشر الدكتور جيمس فيرون قائمة تضم 120 من البلدان القائمة على تنوع الأعراق واللغات، وأخيراً أصبح لدينا قائمة بالبلدان التي تمارس أنشطة ثقافية مختلفة عن النمط السائد، وتعدُّ هذه خطوة أولية لقياس التنوع الثقافي بشكل كمي، وقد حاول الخبراء تقدير هذا التنوع من خلال عدد اللغات المتداولة في منطقة ما واعتبروها مقياساً، ففي التسعينيات من القرن الماضي كان العالم يمرُّ بحالة من التدهور الثقافي، ورصد الباحثون كيف أن هناك لغةً محليةً تختفي كل أسبوعين وتخرج عن التداول؟ وقدَّر الخبراء أنه إذا استمر هذا المعدل فسوف تختفي كلّ اللغات المحلية التي لم تكن مستخدمة على نطاق واسع، خاصة أن الزيادة السكانيّة التي يشهدها العالم لا تبقي على أي مناطق معزولة.

 

العالم يكتشف نفسه

لقد كشف التطور في وسائل الاتصال عن وجود مجتمعات عديدة في مختلف أنحاء العالم، كلها تختلف عن بعضها البعض، في اللغة وطريقة الملابس والتقاليد في الحياة والزواج وأشياء أخرى كثيرة، ويؤثر انتشار وسائل الإعلام وسرعة تدفق المعلومات في تطور المجتمعات المتأخرة والمنعزلة عن بقية العالم، لأنها تنقل لهم صور الواقع الآخر بكل ما فيه من تفاصيل دقيقة، خاصة في تطور الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة، وهو ما يعزِّز من عملية عقد المقارنات والبحث عن البدائل الأفضل، وهو الشغل الشاغل للأجيال الجديدة التي تقبل بطبيعتها على الحياة والرغبة في التغيير.

ويؤكد الخبراء أن هذا التنوع الثقافي شبيهٌ بالتنوع البيولوجي الذي يعتقد العلماء أنه أساس الحياة، وهو الذي حافظ على الجنس البشري طوال السنوات الماضية.

 

الإسلام والتنوع الثقافي

تقول الآيتان الكريمتان 118 و119 من سورة هود: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ). هكذا يقول القرآن وهو دستور الثقافة الإسلامية، فعندما استقرَّ الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة بعد هجرته، حرص أن يجمع كلّ الطوائف الذين يعيشون فيها، المهاجرين والأنصار واليهود، وحتى الذين مازالوا يعبدون الأصنام، ووقَّع معهم عهدًا أن يعيشوا جميعًا في سلام، وتعدُّ هذه أول وثيقة اجتماعية في الإسلام، وقد نصَّت على أن للمسلمين دينهم ولليهود دينهم، ولكن في وقت الحرب عليهم أن يدافعوا معًا عن المدينة، وتنفق كل طائفة على أتباعها، وظلَّ هذا الاتفاق قائمًا حتى أخلَّ به اليهود، وانضموا الى أحزاب قريش فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإجلائهم عن المدينة.

وظلت هذه المبادئ سارية حتى بعد أن قامت الدولة الإسلامية واتسعت حدودها، وقد أسهم غير المسلمين في الحياة بالمجتمع، وكان من نتائج ذلك تكوين الحضارة الإسلامية التي ازدهرت فيها العلوم والفنون والآداب، وكانت في جملتها خلاصة لعبقريات الشعوب التي انضوت تحت حكم الإسلام، وعملت على الرقي بالمجتمع، سواء اقتنعت وآمنت به أو ظلت على عقيدتها الأصلية، وتعد نظرة الإسلام للتعددية بشكل عام هي الحل الأمثل لمشكلة الصراع الديني في العالم، وللتعايش السلمي بين الأديان المختلفة، كما أنها خير دليل على سماحة الإسلام واعترافه بأن الاختلاف طبيعة كونية.

 

الحفاظ على التراث غير المادي للشعوب

ولعل ما تفعله منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) - منذ سنوات - بخصوص الحفاظ على التراث غير المادي للشعوب، هو خطوة مهمة ورائعة من شأنها الحفاظ على التنوع الثقافي للشعوب والدول، وحماية هويَّات ثقافية من الذوبان في هويَّات ثقافية أخرى، كي يظل لكل شعب ولكل دولة تراثها وتنوعها وتعددها الثقافي الخاص بها.

وتعد تلك الخطوة حائط صد لطوفان العولمة الذي يكتسح العالم، ويريد أن ينمّطه ويصبّه في قالب واحد، دون مراعاة للاختلافات والفوارق والتنوع والتباين الثقافي بين كل شعب وآخر، وكل منطقة وأخرى، وكل بلد وآخر. وليس هناك شك في أن الحفاظ على التراث الثقافي اللامادي يسهم في تحقيق التنمية المستدامة، ويحافظ على التنوع الثقافي لشعوب العالم، بل إنه يحافظ على هذا التنوع داخل الدولة الواحدة. فداخل الدولة الواحدة أيضًا توجد مناطق ومجتمعات وثقافات متباينة، وعلى سبيل المثال دولة مثل مصر أو المغرب أو سورية، بداخلها تنوع ثقافي، فمحافظة أسوان التي تقع بالقرب من الحدود السودانية المصرية، تختلف في ثقافتها ومعيشتها اليومية وعاداتها وتقاليدها وطريقة أفراحها وأحزانها عن محافظة أو مدينة مثل الإسكندرية التي تقع على حوض البحر الأبيض المتوسط، على سبيل المثال، ولكن يظلِّلُ هذا التباين ثقافة عامة تتسم بها الدولة المصرية في العموم.

ارسال التعليق

Top