استشهد أبو عبدالله الحسين وهو في السابعة والخمسين بعد أن انقضّت عليه وعلى جيشه سهام الظلم وسيوف الإجرام الحاقدة واستشهد معه ركبه من أهل البيت الستون إلا غلاماً كان مريضاً هو الإمام زين العابدين. الإمام السجاد.
الحسين هو أبو الشهداء، وهو إمامهم وقائدهم بلا منازع. سبط الرسول وسيد شباب أهل الجنة. سلطان للدين وسلطان للدنيا. نشأتُ في أسرة تحب أهل البيت، وأوّل زيارة لي مع والدي وجدي للقاهرة وأنا طفل صغير بدأت بزيارة أهل البيت، بدءاً من سيدنا الحسين وانتهاء بالإمام الشافعي (وهو يعتبر نفسه من أهل البيت) ومروراً بالسيدة زينب والسيدة نفيسة وهكذا. كان جدي يردد على مسامعي ما استقر في ذهنه وقلبه بل وفي قلوب كل المصريين؛ "يا بني انّ مصر سنية المذهب شيعية الهوى". في مقام سيدنا الحسين حيث انّه مرقد رأسه الشريف، وجدت المصريين يبكون وهم يطوفون بالضريح، وكأنّ الإمام الحسين قد استشهد بالأمس، وكانوا يمسكون بأعمدة الضريح الذهبية يتبركون بها، بل ويقبضون بالهواء المحيط بالضريح ويضعونه في جيوبهم ويقولون "ده من ريح الحبايب"!!. هذا هو عشق المصريين للحسين وأهل البيت، بل ويحلفون بحياة الإمام الحسين "وحياة سيدنا الحسين"، فإذا قال البائع ذلك، اقتنع المشتري وتم البيع والشراء. أما في مصر والعالم العربي والإسلامي فإنّ اسم الحسين هو أكثر الأسماء شيوعاً بعد محمد وعلي مباشرة. أما القصائد الشعرية التي قرضها المصريون في مدح أهل البيت بعامة والإمام الحسين بخاصة، فحدث ولا تسل. وحين تضيق الحياة بالمصريين سواء في العمل أو المنزل أو الصحة، يذهبون لمسجد الإمام الحسين للصلاة والدعاء والتبرك. العاشر من المحرم: في ليلة العاشر من المحرم كل عام تهيج قلوبنا وأفئدتنا بذكرى أبي الشهداء وسيدهم وإمامهم، الإمام الحسين بن الإمام عليّ بن أبي طالب – كرمه الله وجهه ورضي الله عنهم وعن أهل البيت جميعاً – وجعلنا من المقلدين لسلوكهم. وصاحب الذكرى، هو سيد شباب أهل الجنّة. حياته نبراس للمسلمين والمؤمنين، واستشهاده نحتاج أن نتعظ ونتعلم منه. فالحسين هو الملحمة الإسلامية، ومواقفه تجعل منه إماماً لكل الشهداء. وهل يُعرَف الناس إلا من مواقفهم؟ هو الملحمة الإسلامية لمواقف الأبطال. حين يتصدون للظلم والظلمات والظالمين، والطاغوت والجبروت، والتكبر والتسلط والاستكبار. كان جيشاً بمفرده، في مواجهة كل جيوش الفساد والإثم والأنانية والضعف الإنساني في أبشع صوره. فأنعم به من إمام، وأكرم به من شهيد.. هو ابن بنت رسول الله (ص) وهو ابن إمام المتقين، فهو حجازي، هاشمي أبا عن جد، ولادة وموطناً، وأبوة وأمومة. وهو شرف لم يجتمع لأحد ألا لأبيه باب مدينة العلم "أنا مدينة العلم وعليّ بابها" حديث شريف. وهو من أهل البيت الذين نزلت في حقهم الآية القرآنية الكريمة (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب/ 33). نشأ في بيت النبوة وترعرع في ديار الإسلام العامرة بالقلوب المؤمنة. أخذ من أبيه الإمام الكثير، أخذ منه الفروسية والشجاعة والنخوة والإقدام، وآداب السلم والحرب على حد سواء، أخذ منه الأثرة والاريحية، وقول الحق حتى لو كان مرّاً، وأغلب الحق مرّ، إن لم يكن كلّه مرّاً. ولا أدري أي ظلم وظلام ران على قلوب الذين قطعوا رأسه الشريف، وأي هوس وجنون أصاب عقولهم؟. خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. إنّ العقل ليحار في تفسير هذه المرحلة المظلمة من تاريخ المسلمين. ثلاث عائلات حكمت المسلمين على مرّ العصور: عائلة بني أمية ثمّ عائلة بني العباس، ثمّ عائلي بني عثمان في تركيا أيام الإمبراطورية العثمانية. خلطوا عملاً صالحاً بعملٍ فاسد، كانت سلطة مطلقة، أدّت إلى المفسدة المطلقة.. لقد اشترك أغلب المسلمين في هذه المأساة، منهم من شارك بالفعل والقول وهم المجرمون القتلة الحقيقيون الذين سيصلون نار جهنم خالدين فيها أبداً وعليهم اللعنة إلى يوم القيامة، ومنهم المتقاعسون عن نصرته والمتكاسلون عن الانضمام لجيشه "جيش الحق وحزبه"، ومنهم الصامتون صمت الجبال والتلال والقبور آثروا العافية والسلامة. سيدي ومولاي وحبيبي إمام الشهداء. ماذا نقول في ذكراك، وماذا ينفع الندم؟ (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46). لقد فقد أعداؤك جميعاً في هذا اليوم المشؤوم ضمائرهم فقداً جماعياً. وتتكرر المآسي دائماً يا سيدي ومولاي الحسين العظيم، حين يحدث هذا الفقدان الجماعي لضمير شعب أو أمّة وقبيلة أو نظام حاكم أو مؤسسة حكم متسلطة بالقوة والعنف والجبروت، فيستوي عند أولئك الحق والباطل، ويستوي النور والظلام. ومن العجب انّ هذا الفقدان الجماعي للضمير يحدث كل يوم وكل ساعة وكل عام وكل قرن من الزمان.. يحدث ذلك طالما انّ ذوي العقول الحكيمة وذوي العلم وذوي الفقه مهمشون عن اتخاذ القرار والحكم، وطالما انّ اتخاذ القرار العشوائي يخرج من أهل الفتنة وأهل الجهل وأهل السلطة المستبدة الدكتاتورية الغاشمة. الحسين العظيم: الحسين العظيم، عظيم في كل شيء. عظمة يصعب على العقول القاصرة ادراك جوانبها، كالشمس التي يصعب عليك أن تحدق إليها طويلاً. انّه ابن فاطمة التي يقول فيها الشاعر محمد إقبال: المهد يشرق من ثلاثة مطالع *** من مهد فاطمة فما أعلاها هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ *** من ذا يداني في الفخار أباها هي ومضة من نور عين المصطفى *** هادي الشعوب إذا تروم هداها هي رحمة للعالمين وكعبة الآمال *** في الدنيا... وفي أخراها والحسين العظيم هو ابن "إمام المتقين أو ابن الإمام" (كما قال العقاد، فحين كتب العقاد عبقرياته كتب عبقرية الصديق، ثمّ عبقرية الفاروق، ثمّ عبقرية ذي النورين، ولما جاء إلى عليّ (ع) قال عبقرية الإمام، فلا إمام إلا عليّ". يقول إقبال في الإمام: ولزوج فاطمة بسورة هل أتى *** تاج يفوق الشمس عند ضحاها وذلك حين فضلوا أن يطعموا *** طعامهم للمسكين واليتيم والأسير وظلوا على الجوع. فليرجع المسلمون إلى القرآن والتاريخ وسيرة أهل البيت (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 9). ويعود إقبال إلى فاطمة الزهراء فيقول: فمها يرتل أي ربك بينما *** يدها تدير على الشعير رحاها بلت وسادتها لآلئ دمعها *** من طول خشيتها ومن تقواها مأساة عصر وأمة: حاول ابن بنت رسول الله أن يسير بأهله في أرض الله الواسعة فسدت جيوش الكفر كل الطرق أمامه وانقضت عليهم سهام الآلاف المجرمة الحاقدة الأنانية، ضعيفة النفس والإيمان، وسيوفهم لكنه ظل يحارب كالأسد. وتسيل جراحات جسمه، وهو في السابعة والخمسين، حتى استشهد "أبو عبدالله الحسين" والرجال السبعون الذين يتألف منهم ركبه إلا غلاماً مريضاً عاجزاً عن الحركة، هو ابنه "زين العابدين" الإمام السجاد. يقول الإمام الشعراني في كتابه الطبقات الكبرى عن أبي عبدالله (حج رضي الله عنه خمساً وعشرون حجة ماشياً وكان يقول (رض): "اعلموا انّ حوائج الناس إليكم من نعم الله عزّ وجلّ عليكم، فلا تملّوا النعم فتحور نقماً")... ولكن؟! أترجو أمة قتلت حسيناً *** شفاعة جده يوم الحساب؟ زينب في القاهرة: وخرجت السيدة زينب، على رواية، برأس أخيها الإمام الحسين واستقبلها أهل مصر في بلدة "بليس" بالشرقية على بعد أميال كثيرة من فسطاط القاهرة، وكان على رأس مستقبليها أمير مصر مسلمة بن مخلد، فعاشت في مصر وماتت ودفنت هناك في مسجدها العامر الزاهي بحي السيدة زينب في القاهرة المحروسة بأهل البيت رضوان الله عليهم. ولعل من حظ مصر وحظ القاهرة أن يشرف ثراهما برفات أهل البيت الذين باركوا أرض مصر وأهل مصر وسماء مصر، وماضي مصر وحاضرها ومستقبلها. ولنقرأ ماذا قالت السيدة زينب بعد استشهاد أخيها الإمام الحسين (ع): ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم *** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم بعترتي وبأهلي بعد معتقدي *** منهم أسارى ومنهم لطخوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم *** أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي وتؤكد بعض كتب التاريخ ويؤكد المؤرِّخون انّها حملت رأس الحسين – رضي الله عنه –، ودفنته بالمشهد الحسيني بجامع الحسين بحي الأزهر الشريف. ولقد مشى الناس حفاة من مدينة غزة، في فلسطين، حزناً لإستشهاد الحسين وتعظيماً وحباً لبنت رسول الله وقطعوا الرحلة على الأقدام من غزة إلى بلبيس الشرقية ومنها إلى القاهرة العاصمة. دروس من الاستشهاد: إنّ الحق أقوى من الباطل، وانّ الأمم تبقى بالمقاومة والاستشهاد. إنّ دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة. وانّ الحق يعلى ولا يعلى عليه. وانظر إلى مقام ومسجد الإمام الحسين في القاهرة وضريحه في كربلاء وضريح إمام المتقين عليّ بن أبي طالب، ثمّ قارن بينه وبين اندثار أعدائه، فلا تكاد تعرف قبورهم، واغلبوا قبور أعدائه في أماكن قذرة يندى لها الجبين. "السلام عليك يا أبا عبدالله الحسين يا أبا الشهداء وإمامهم نبراس الحق ونور الطريق وشعلة الإيمان تتمثل فيك القيادة والريادة والعمادة والشهادة السلام عليك دائماً وأبدا السلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا".►*استشاري الطب النفسي/ بريطانيا
المصدر: مجلة الكلمة/ العدد الخامس لسنة 2005م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق