• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحقائق النقدية العشر

أسرة

الحقائق النقدية العشر
دعونا نتعرّف على أهمّ الحقائق النقديّة الميدانيّة المتعلقة بأصول النقد، لأنّها هي التي ستضع قدمنا على الطريق الصحيح:   - الحقيقة الأولى: الكمالُ لله وحده حقيقة كبرى لابدّ أن ندركها ونتعاطى معها باحساس ووعي كاملين، فليس في الوجود "كمالٌ مطلق" سوى كمال الله تعالى، وما عداهُ بشرٌ معرّضون للخطأ، مفطورون على النقص، إلا مَن رحم ربِّي ممّن أذهب عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيراً، الذين استمدّوا كمالهم من كماله، كما تستمدّ الأقمارُ نورها من الشمس، وهم الأنبياء والرُّسُل والأوصياء. الذاتُ المقدّسةُ هي الوحيدة التي لا يطالها النقد، وما سواها فتحتَ طائلته، وبالمناسبة فإنّ الكمالات الإنسانية ليست مواهب إلهية مجرّدة، بل هي مسعى ذاتي لتربية وترويض النفس لتحصل على الملكات العليا بحيث يمكنها أن ترتكب الخطأ لكنها لا ترتكبه، ولذلك كانت فوق النقد بجهادها الذاتي وبالاصطفاء الرباني، فاللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالته.   - الحقيقة الثانية: ليس هناك إنسان فوق النقد ما عدا مَن سبقت الإشارة إليهم، ما من إنسانٍ إلا وله عيوب، حتى النقّاد أنفسهم ليسوا مبرّأين من العيوب، فكما أنّ للناقد عيوناً تُبصرُ الأخطاء وترى الثغرات، وله لسان ينتقد به تلك الأخطاء والثغرات، فللناس أيضاً عيون ترى أخطاءه وعيوبه وثغراته، وأفواه تتحدّث عنها، لذلك قال الشاعر: إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى **** وذنبُكَ مغفورٌ وعرضُك صيّنُ لسانَكَ لا تذكر به عورةَ امرئٍ **** فكلّك عوراتٌ وللناسِ ألسنُ وعينُك إن أبدت إليك مساوئا **** فصُنها، وقل: يا عينُ للناسِ أعينُ هل هذا يوقُف عملية النقد أو يشلّها ويصادرها؟ بالتأكيد، لا، فالناسُ – كما المرايا – كلٌّ يُبصرُ عيوبه في مرآته ومرآة غيره.. وخلوّ الإنسان من عيبٍ ما – مع إمكانية وقوعه فيه – يُتيحُ له أن يتعرّض لهذا العيب عن المصاب أو المبتلى به، وإلّا فهو أولى باصلاح عيوبه: عليك نفسكَ فتِّش عن معايبها **** وخلِّ عشراتِ الناسِ للناسِ   - الحقيقة الثالثة: بقدر ما تنقُد نفسَكَ يقلُّ نقدُ الآخرين لك أنّك تضعُ نفسَكَ موضع النقد الذاتي والقاسي، فإنّ ذلك يقلِّص – إلى أدنى حدّ – مواجهتَك بالنقد من قبل الآخرين. إنّ الذي ينظُر في المرأة مليّاً سوف لن تفوته الأخطاءُ في مظهره، وسوف لن يخرج لمقابلة الناس إلا بعد أن يُصلحها، فيرتِّب شعره وهندامه حتى لا يتعرّض للسؤال أو النقد بالأعين إن لم يكن بالألسُن. الذين لا يُنتقدون كثيراً، هم مَن ينتقدون أنفسهم كثيراً.   - الحقيقة الرابعة: التعالي على النقد عيب بحدّ ذاته: حسنُ الظنّ الزائد بالنفس يحجبها عن التطور والرقي، كما يُقال فإنّ "الراضي عن نفسه مفتون".. فَتَنَتهُ نفسُه حتى لم يعد يرى إلّا كمالها، وما هو بكامل، لكنّه هكذا يرى نفسه، أو يوهمه إعجابه بها، إنّه يرى ذاته بمرآة مقعّرة فتتضخمُ لديه، ولذا فإنّ أمثالُ هذه النماذج والعيّنات لا ترفضُ النقد فحسب، بل تتهمُ المنتقدين بأنّهم مُغرضون وحاقدون وحاسدون وأعداءه، وأنّ في أعينهم رمداً، بل وترميهم بما هي فيه أو عليه على طريقة "رمتني بدائها وأنسلّت". إنّه غرورٌ أجوف.   - الحقيقة الخامسة: التفتيش عن النقد أفضل من انتظاره عُيوبنا المكتَشفَة من قبل الآخرين هي هديتهم إلينا، إنّهم يساعدوننا كثيراً في تجاوزها واصلاحها، ولذلك فإنّ الذي يطلبُ النقد ويطالبُ به، ويعتبره "حقَّهْ" على الآخرين، هو أكثر الناس قدرةً على تجاوز الخطأ وتفاديه. إنّه لا ينتظر النقد يأتيه صدفة وبشكل عارض، وإنّما يسعى إليه برجليه. وفرقٌ بين أن يأتيكَ النقدُ صدفةً وبين أن تبحث عنه.. هناك قد يصدمُك.. أمّا هنا فتكون قد وطّنتَ نفسكَ على قبوله وتقبّله واستقباله، فيقلّ وقع الصدمة عليك.   - الحقيقة السادسة: بقدر أهميتك يكون النقد الموجّه إليك يجب أن يفرح المُنتَقدون بدلاً من أن يحزنوا، أو يشعروا بجرحٍ في الكرامة، فالمهملُ المغمورُ هو الذي لا يُنتقد، أمّا ذوو الاعتبار والشأن والقيمة الاجتماعية فهم أكثر الناس عرضةً للنقد، وذلك لأنّهم في الواجهة دائماً، ولأنّهم يمارسون العمل والحركة في المجتمع وفي الهواء الطلق، فتبدو أخطاؤهم مرصودة أكثر. النقدُ هنا أشبه بـ(المنبِّه) الذي يقول لك: انتبه لقد زغت أو خرجت عن الطريق، أو تجاوزت الحدَّ، أو لم تُحسن التصرّف. النقدُ هنا يدٌ كريمة تأخذك لترجعك إلى الطريق، وتوقفك عن الحدّ، وتُعلِّمك كيف تتصرّف في القادم من مواقفك. إنّنا إذا استوحشنا من النقد، فإن مرارةً الخطأ وفجيعتَهُ ستكون أشدّ وحشةً علينا من النقد ذاته.. الكبارُ يطلبون النقد ويشكرون النقّاد لأنّهم يرون في النقد إراءة لطريق، وإضاءة لما خفي عنهم، وتسديداً لخطاهم.. أمّا الصغار فيعتبرونه لعنة وفضيحة وإساءة، لذلك يهربون منه.   - الحقيقة السابعة: النقد الحقُّ يُقلِّصُ البشاعة تختلف التسميات والغرض واحد: النقد السليم، النقد البنّاء، النقد الهادف، النقد الموضوعي.. التسديد، كلّها تلتقي تحت عباءة واحدة، فالمراد منها النقد لأجل الاصلاح، كما قال نبي الله شعيب (ع): "إن أردت إلّا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلّا بالله". نقدٌ من هذا النوع إيجابي، نافع، فعّال، مؤثِّر، وقادر على كنس الأخطاء وتقليص درجة البشاعة، ومستوى الشر والسقوط المفاجئ، ولأنّه كذلك فهو يزيد في المقابل وبالتبعيّة، من نسبة الجمال والخير والعدل في المجتمع. إقلع الأعشاب والحشائش الضارّة، تنمو النباتات النافعة والمفيدة بوضع صحّي أفضل.   - الحقيقة الثامنة: نقدُ المسلم لا يعني نقد الإسلام المسلمون شيء والإسلام شيء آخر.. هذه مفارقة مؤسفة، لكنّها حقيقة واقعة وقائمة، فالمبادئ والنظريات والعقائد لا تجدُ دائماً التطابق المرجوّ بينها وبين حامليها ومعتنقيها وإلّا ارتقينا جميعاً إلى مستوى مقارب من الأنبياء والرُّسُل. المفارقات السلوكيّة، والشطحات الفكريّة، والشَطَط أو الشذوذ الأخلاقي، أو التطرّف في الممارسات، ليست دروساً يتعلّمها المسلم في مدرسة الاسلام، بل خارجها، وإذا أردنا أن ننتقد سلوكاً لفرد مسلم أو مجتمع مسلم فإنّنا نعرضه على مرآة ما لدينا من صورة سليمة للإسلام لنقارن بينها وبين ما نرى من مدى الفرق والتباين، لذا فمن الخطأ التصور أنّ نقد المسلمين يعني نقد الإسلام، وإنّ نقد الممارسة والتطبيق يعني نقد النظرية والمبدأ. إنّ الإسلام أوّلُ مَن ينتقد أتباعه إن هم شذّوا عن الصراط وانحرفوا عن الخطّ، وكأنّه يخاطبهم بلسان الحال: ما هكذا علّمتكم، ولا هذا عهدي وظنّي بكم، أو ما لكم كيف تحكمون؟ كيف تتناقضون؟ كيف تتطرّفون؟ ما هكذا أردتُ لكم أن تكونوا إنّكم بهذا أو بذاك تُسيئون لأنفسكم ولي أيضاً. نقدُ المسلمين محاولة جادّة ومخلصة – إلا ما كان مغرضاً – لإرجاعهم لإسلامهم الصحيح، ودينهم الحنيف، وخطّهم الوسط.   - الحقيقة التاسعة: أسلوبُ النقدِ أهمُّ من النقد لا يعني ذلك أنّ النقد بذاته أقلُّ قيمة، بل إنّ النقد يفقدُ قيمته أو بعض قيمته إذا لم يتحلّ الناقد بأسلوب حكيم يقدر من خلاله على إيصال الرسالة التي يريد للمنقود، فعلى قدر سلامة الأسلوب وصحّته ولطافته تتوقف مسألة فتح (القلب) و(العقل) قبل (الأذن) للنقد. إنّ الذين نجحوا في جعل المنقودين يتجاوبون مع نقودهم، كانوا دائماً يعتمدون أسلوباً غاية في اللطف والرقّة والمحبّة، يقدِّمونه بين يدي نقدهم تمهيداً وتوطئة له، فإذا بدأت باللطف وأشعرتَ المنقود بلطفك وعطفك وحرصك عليه، وبأن لا تريد له إلّا الخير، تفتحت مسامع قلبه لما تقول وتنتقد.   - الحقيقة العاشرة: النقدُ العلميُّ أفضلُ النقد وأنجحهُ هل يمكن أن تكون هناك حياة بلا نقد؟ كيف يمكن أن نرسم أو نتخيّل صورتها؟ أبٌ متزمّت يربِّي أولاده على هواه، ووفق مزاجه، فيظلم ويقسو ويجور، ولا يقبل النقد من أحد.. كيف يمكن أن يكون مستقبل هؤلاء الأولاد، بل كيف سيكون مستقبله هو أيضاً؟! مهندس معماري.. يضع الخرائط وينفِّذ المشاريع، وتبرز الأخطاء للعيان، فإذا يُنتَقد فإنّه قد يكرِّر أخطاءه، لأنّه قد لا يراها أخطاءً وقد يتساهل في مشاريعه المستقبلية فلا يقدِّم ما هو أفضل. كاتبٌ.. يكتب ويؤلِّف ويدبج المقالات أو الأشعار أو الروايات، ويطرح الآراء والأفكار، فلا يجد مَن ينتقد كتاباته، فإذا لم ينزلق إلى الإسفاف فقد يجنح به الغرور، فلا يرى إلّا الحقّ والصواب فيما يكتب. فنّان يرسم لوحة أو لوحات ويضعها في معرض، وينتهي المعرض فلا يتسلم أيّة ملاحظة نقديّة لا مباشرة من زوّار المعرض، ولا غير مباشرة مدوّنة في سجل الزيارات أو مطروحة من قبل النقّاد الصحفيين أو المعنيين بالشؤون الفنّية، كيف سيكون معرضه القادم؟! مسؤول حكومي أو إداري يتعامل بفظاظة وبعنجهية وتعالٍ مع الناس والمرؤوسين، فإذا لم يجد مَن يوقفه عند حدّه، أو ينتقد تصرّفاته، فإنّه قد يطغي ويتفرعن فلا يسلم من سلطته وسطوته وسلاطته أحد. وهكذا تنقل بين سائر المهن والحرف والمسؤوليات والأعمال والمواقع، فلو لم يكن هناك نقد (لركد) العطاء، وتبلّدت الأشياء، وهيمنت الرتابة، وبدلاً من أن نتقدّم إلى الأمام نرجع إلى الخلف حتى لو قطعنا أشواطاً إضافيّة، على عكس ما لو كانت حركة النقد ناشطة ومتفاعلة، ومتكاملة، عندها يمكن أن نطالع صورة مختلفة، هذه بعضُ ملامحها المتصوّرة: 1- ستتقلّص الأخطاء في أضيق دائرة، وتنحسر النواقص والثغرات إلى أدنى حدّ ممكن[1]. 2- ستشيع حالة من التواضع والإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطأ من خلال معرفة الإنسان لقدر نفسه، وتلمّسه أخطائه، ونبذه حالة العُجب والتعالي من أنّه فوق أن يُخطئ، وفوق أن يُنتَقد. 3- سيتمُّ تفادي الخطأ سريعاً، أو في أسرع وقت ممكن، أي من قبل أن يستشري فيغدو كما لو كان حقّاً أو صواباً، ومن قبل أن يزداد الطين بلّة فيُصبحُ الخطأُ خطيئةً. 4- سيكون هناك المزيد من التجدد والإبداع والدقة والتحري عن الأجود والأفضل والأصلح، وعدم ارخاء ادخار الوسع لاجتناب الضعف والرداءة والخطأ. 5- ستتجلّى المحاسن أيضاً إلى جانب المساوئ، فالضدّ يُظهر حسنه الضدُّ، والنقد – كما أسلفنا – عملية مزدوجة أو مركّبة، فإذا حدّثنا أحدهم عن عيب أو أكثر من عيب أو خطأ وسكتَ عن المحاسن، فهذا أن ما دونَ الأخطاء والعيوب والنقائص محاسن وإيجابيات. 6- ستُرسى قواعد وآداب وأصول للنقد الهادف البنّاء، وسيَكتشف منهج لكشف الأخطاء وتصحيحها، وسيُطرد أو يُحشر في زوايا ضيِّقة كلّ نقد هدّام، ذلك أنّ شيوعَ اللون الثاني من النقد وتفشّيه إنّما يعودُ في أحد أسبابه إلى غياب النقد السليم، فيكون ما دونه شتائم وتجريحات وإساءات وتقريعات وبذاءات ربّما. 7- ستُحدّ أو تزول حالات الانهيار المفاجئ السريع، طالما أنّ المنقودين يبادرون إلى معالجة أخطائهم أوّلاً بأوّل، وطالما أنّ الناقدين لا يشنّون حرباً أو يفجّرون ثورة ضد مَن تصامم أو تعامى عنها، ستكون هناك – بحسب الوعي الثقافي النقدي السائد – مصالحة نقديّة، أو تسالم نقدي، فلا المنقود يرى في النقد محاولة للإطاحة به، ولا الناقد يجد نفسه في موقف الإجهاز والإفتراس والإنقضاض على الفريسة. 8- ستعود العافية إلى فريضة مريضة تشكو الضعف والهُزال، وهي فريضة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التي تعتمدُ النقد البنّاء سواء في الحدّ من المنكر وتقليم أظافره والسعي لإزالته وكبح جماحه، أو في الإرشاد إلى المعروف وتوسيع رفعته ونشر لوائه. هل عرفتَ الآن لماذا (الرقابة) ولماذا (الحُسبة) ولماذا (التدقيق) و(التحقيق) و(التحرّي) في مواقع العمل على اختلاف طبيعتها ومضامينها؟! إنّه من أجل أن لا يُسرف العاملُ في الخطأ أو يتمادى فيه فلا يجد مَن يحاسبهُ، أو يوقفه عند حدّه، أو يتردّى الانتاج فلا يُعرف السبب، أو تهبط سمعة الشركة وأرباحها من دون أن تكون عملية (تقويم) و(تقييم) أو (مواجهة) و(نقد).
[1]- هذا لا يعني أنّنا سنعيش ذات يوم حياةً بلا أخطاء، ولا أنّ الأخطاء غير ضرورية في حياتنا، وإنّما نقصد إنّ معرفة الخطأ لتلافيه مستقبلاً، وأخذ الحيطة والأهبة لكل عمل تقدم عليه، هو من بعض ثمرات النقد الذي يجعل من كل منّا كالسائق الذي يراقب علامات وإشارات المرور فيتفادى الحوادث المؤسفة.

ارسال التعليق

Top