• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الروح الدينية في تربية المراهقين

يوسف ميخائيل أسعد

الروح الدينية في تربية المراهقين

◄كان الدين – ولا يزال – من عوامل تحريك السلوك الإنساني ووضعه في صيغة معيّنة. ويجمع دارسو السلوك الإنساني على أنّ الدين يعد أقوى ركيزة يمكن أن تقوم عليها أخلاق الشخص وسلوكه. ولقد أخطأ الذين زعموا أن من الممكن أن تقوم أخلاق بغير دين. وحتى إذا قامت فإنها إذن تكون أخلاقاً سطحية وجوفاء، فلا تمت للأخلاق المنبعثة عن جوهرية الشخصية إلا بالمظهر الخارجي فحسب. فالواقع أنّ الدين يتصل أكثر ما يتصل بصلب شخصية الإنسان. ولذا فإنّ الأخلاق التي تقوم على الدين هي أخلاق متأصلة بالشخصية وترتبط بمحور كيانها ولبها.

لذا فإنك تجد أنّ الأسرة التي تهتم بالدين والتي تتأصل لديها الروح الدينية الحقيقية أكثر الأسر قدرة على تنشئة أبنائها تنشئه صالحة قويمة. نعم إن هناك كثيراً من حالات التدين المرضية التي لا تتصل بالدين بصلة صحيحة. ولكن الأسرة التي تتذرع بالتربية الحقيقية غير المرضية جديرة بلا شك بأن تُربي أبناءها وبناتها على أخلاق سليمة، وعلى أسلوب سلوكي متين.

ولعلنا فيما يلي نستطيع أن نعرض الجوانب الأساسية بالتربية الدينية التي ينبغي على الأسرة أن توفرها للمراهق والمراهقة والتي على أساسها تنشأ الأخلاق الحقيقية المرتبطة بوشائج متينة مع الدين وتعاليمه:

أوّلاً: يجب توفير حد أدنى من المعلومات الدينية لكل من المراهق والمراهقة. ويجب على الأسرة ألا تعتقد أنّ المدرسة وحدها مسؤولة عن هذا، أو أن ما يدرس من مناهج دينية بها كافٍ وحده لتوفير هذا الحد الأدنى من المعرفة الدينية. فالواقع أنّ المدرسة تقدم إطاراً عاماً لا يتصل بالحاجات الفردية لهذا المراهق أو ذاك أو لهذه المراهقة أو تلك. أما الأسرة فإن من مسؤوليتها أن توفر الحاجات العقلية الخاصة بكل مراهق ومراهقة فيما يتعلق بالمسائل الدينية التي تلح على ذهنهما.

ثانياً: ممارسة الشعائر الدينية. ذلك أن ممارسة الدين من جانب الوالدين وصدور ذلك على الأب والأُم لأنّهما يؤمنان بحق به، إنما ينتقل لا شعورياً إلى الأبناء والبنات ولا تستطيع القول بأنّ الممارسة الدينية تأتي بأمر الأبناء والبنات بأدائها بغير أن نكون نحن قدوة لهم في ذلك. فحتى إذا هم أطاعوا، فإنّهم سيقدمون الشكل الخارجي للممارسة الدينية الخالية من المضمون والجوهر. ومعروف أن مضمون الدين وجوهره هو الإيمان القلبي والصدور في السلوك الديني عن حماس حقيقي.

ثالثاً: اقتناء الكتب الدينية الرئيسية وإتاحة استخدامها للمراهق والمراهقة. فهناك إلى جانب الكتب الدينية الرئيسية كتب دينية أو فلسفية لها أهميتها الدينية يجب أن تعمل الأسرة على اقتنائها وتشجيع أبنائها المراهقين والمراهقات على قراءتها وتفهم ما جاء فيها ومناقشته.

رابعاً: توجه الأسرة ككل إلى الجامع أو إلى الكنيسة. (حسب دين الأسرة) ذلك أنّ هذه المصاحبة تعد من أكبر العوامل على اعتياد المراهقين والمراهقات على التردد على دور العبادة والمواظبة على الصلاة بها.

خامساً: مناقشة المشكلات الدينية المتعلقة بالمعتقدات الدينية، وما قد يلم بعقلية المراهق من شكوك في معتقداته.

سادساً: تفهم الأخلاق الدينية بنظرة تطورية. ذلك أنّه في حدود الدين الواحد تكون هناك مستويات متعددة من الفهم الديني تتوقف على السن والثقافة والجنس، بل وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسرة.

سابعاً: محاولة تقديم نظرة مقارنة إلى الأديان للمراهق والمراهقة. ولا يكون الهدف من ذلك البحث عن الصحيح والخاطئ، بل يكون الهدف منه القضاء على ما يمكن أن ينشأ من تعصب نتيجة عدم معرفة ما تقول به الأديان الأخرى من تعاليم سامية.

ثامناً: التأكيد على الجانب الإنساني والجانب الوجودي بالدين. والجانب الإنساني يقول بأخوة بني الإنسان جميعاً، أما الجانب الوجودي فإنّه يقول بأنّ الإنسان جزء من هذا الوجود يؤثر فيه ويتأثر به، وينبغي ألا يتجبر ويحس بسيادته أكثر من اللازم على الكون.

تاسعاً: ممارسة الأسرة عملياً لتعاليم الدين كالإحساس بالشفقة والعفة والتواضع والمحبة والأمانة وغير ذلك من فضائل مستمدة بصفة جذرية من تعاليم الدين ولا تكون ذات فاعلية إلا إذا تاصلت التعاليم الدينية في القلوب.

عاشراً: القضاء على الخرافات التي يمكن أن تكون قد علقت خطأ بالدين كالشعوذة والقضاء أيضاً على فنون السحر التي ترتبط من قريب أو من بعيد بالمعتقدات الدينية، وتدريب المراهق والمراهقة على التشبث بالتفكير العلمي وإزالة كل تعارض بين الإحساس الديني وبين النهج العلمي في التفكير بمواقف الحياة المتباينة.

والواقع أنّ التربية الدينية على جانب كبير من الاهمية خلال فترة المراهقة بالذات للأسباب التالية:

أوّلاً: إنّ فترة المراهقة هي فترة التلبس بالمثل العليا. فهي في الواقع فترة التدين الحقيقية. فإذا لم تستغل الأسرة هذه الفترة لبث الروح الدينية ودعمها في نفسية المراهق فإن من العبث شحذ الروح الدينية لدى الشخص بعد ذلك من مراحل العمر التالية.

ثانياً: إنّ فترة المراهقة هي أيضاً فترة التشكك الديني. فالمراهق والمراهقة يودان لو يخضعا كل شيء لعقلهما، وأن يرفضا كل شيء لا يقبله العقل. من هنا فإن بث الروح الإيمانية في قلبي المراهق والمراهقة يكفل لهما الحماية ضد زوابع الشك التي يمكن أن تجتاحهما.

ثالثاً: في هذه الفترة يرتبط الجنس بالدين. ذلك أنّ المراهق والمراهقة يربطان كل إحساس جنسي يعتمل لديهما بالمعايير الدينية للفضيلة والرذيلة، وللخطيئة. ولقد يعمد المراهق أو المراهقة لا شعورياً إلى التخلص من الشعور بالإثم نتيجة خطيئة جنسية يكونان قد اقترفاها، وذلك بالقضاء على مصدر التحريم ذاته أعنى الدين، وذلك بالتطرق إلى الإلحاد أو التعريض بالقيم الدينية والمعتقدات الدينية ذاتها تحت ستار من المنطقية التي تعد في واقعها مبرراً لما انتحيا إليه من إلحاد أو خروج على الخط الديني القويم.

رابعاً: تعد فترة المراهقة هي فترة التفكير العلمي واكتشاف ما قد يظنه المراهق أو المراهقة معارضاً للدين. فمن القضايا الملحة على ذهن المراهق والمراهقة قضية اتفاق الدين مع العلم فيما يكشف العلم عنه من حقائق علمية.

خامساً: تعد فترة المراهقة فترة بلورة الشخصية اجتماعياً وفق السلوك الاجتماعي السليم. ومن المعروف أنّ الأسس الدينية من أهم الأسس التي يقوم عليها السلوك الاجتماعي السليم. فإذا ما فقد المراهق والمراهقة القدرة على التشبع بتلك الأسس فإنهما لا يستطيعان بالتالي بلورة شخصيتيهما وفق السلوك الاجتماعي السليم.

سادساً: من المعروف أن فترة المراهقة من أكثر فترات العمر تعرضاً للانحرافات الجنسية والأخلاقية، وذلك لأنها فترة الانفعالات بالدرجة الأولى. من هنا فإن عدم تحصن المراهق والمراهقة بالدين خلال هذه الفترة يجعلهما عرضة للغوايات الجنسية وغيرها ويكونان أبعد ما يكون عن التسامى بما لديهما من غرائز وميول وانفعالات.

سابعاً: إنّ فترة المراهقة هي فترة الاحتجاج على عالم الكبار. ويخشى أن يعمم المراهق والمراهقة احتجاجهما على الألوهية ذاتها، ويظنان أنّ القوة الباسقة لديهما تسمح لهما بالسيطرة على الكون بأسره، وليس هذا من قبيل المجاز. ذلك أنّ المراهق والمراهقة قد يتعرضان للإصابة بجنون العظمة.

ثامناً: تعتبر هذه المرحلة التفتح الفلسفي – فالمراهق والمراهقة خلال هذه الفترة يحسان بضرورة التفتح على تفسيرات شاملة وناجعة للكون من حولهما ولمعنى الحياة. والواقع أنّ الفلسفة تشترك مع الدين في الموضوعات التي تتعرض لها، بينما تختلف عن الدين في المنهج الذي تتناول به الموضوعات وتقوم بدراستها بواسطته. ذلك أنّ الفلسفة تعتمد على التأمل العقلي والحدس، وليس على الوقائع الجزئية والتجريب والاستنتاج المباشر من المعطيات الجزئية. ونستطيع القول بأنّ الفلسفة سابقة على العلم وتالية له في نفس الوقت. فهي بدأت بتناول موضوعات العلم والدين بمنهج تأملي. خذ مثالاً لذلك أنكساغوراس (500-428 ق.م) الفيلسوف اليوناني. إنّه قرر أنّ القمر مثل الأرض وأنّه مكون من تربة ورمال، وأن عليه سكان كسكان الأرض، وأنّ النور الذي نراه عليه إن هو إلا انعكاس أشعة الشمس عليه. ولما كان اليونان القدماء لعهده يقدسون القمر ويحسبونه ضمن الآلهة، فإنهم تآمروا على أنكسافوراس لقتله، فهرب سراً بالليل من أثينا. وعلى الرغم من اتفاق معظم ما قرره أنكساغوراس مع ما يقرره علماء الفلك والفضاء اليوم، فإن كلامه يدخل في نطاق الفلسفة لا في نطاق العلم لأنّه لم يعتمد في تقريره على الوقائع المحسوسة، بل على تأملاته الشخصية واستنتاجاتها العقلية.

ومن جهة أخرى فإن فلاسفة العلوم اليوم يتناولون النظريات العلمية المتعددة ويستخرجون منها نظرة عامة إلى الوجود لا تعتمد بطريق مباشر على المحسوسات بل على النظريات، وينتهون إلى فلسفة للعلم. وبهذا نقول إنّ الفلسفة سابقة على العلم وتالية له في نفس الوقت.

وحيث إنّ المراهق والمراهقة يتفتحان على الفكر الفلسفي ويبحثان عن تفسير عقلي فلسفي لكل ما يقع تحت حسهما، ولكل ما يصل إلى عقلهما، لذا فإن واجب الأسرة أن تهيء لهما فرصة البحث العقلي والمجادلة والمناقشة، ولا تعمد إلى إسكاتها بالدين أو مع فكرهما الفلسفي، بل تشجعه وتعتبر هذه ظاهرة صحية لا غبار عليها، وأنها مع التوجيه تكون مدعاة إلى تثبيت الإيمان بالله وإلى التمسك والتلبس بالروح الدينية.

تاسعاً: إنّ فترة المراهقة فترة مشفوعة بكثير من التقلبات المزاجية. وهذا يؤثر في مدى تمسك المراهق والمراهقة بالقيم الدينية والعقائد الدينية. فإنك تجدهما يوماً وقد أخذا في التحمس الشديد للدين، وفي يوم آخر تجدهما فاتري الهمة وقد ذبل حماسهما الديني. ولقد يحدث أن يقع المراهق أو المراهقة في وقت فتورهما في أيدي بعض الملحدين، فينحرفون بهما انحرافاً كبيراً أو صغيراً عن العقيدة الدينية، ويفتوا في عضدهما ويضربوهما بالشك حتى في وجود الله. فإذا كانت الأسرة واعية لمثل هذه المواقف، فإنها بتدينها تستطيع حماية أبنائها وبناتها من مثل تلك الاحتمالات. وحتى إذا اكتشفت بوادر ميول إلحادية قد بدأت في البزوغ في عقل الابن أو البنت المراهقة، فإنها تستطيع بتغليفه بالجو الديني وبتقديم البراهين المضادة التي تعمل على تثبيت الإيمان إزالة الإلحاد من ذهنهما.

عاشراً: قد يرتبط الدين في ذهن المراهق والمراهقة بالمخلفات القديمة البالية التي انتقلت إلى جيله الجديد النابض بالحيوية والحياة عن الأجيال القديمة، ومن ثمّ فأجدر به أن يتلاشى ويمزق وبضرب به عرض الحائط. وهذا الشعور قد يصل إلى ذهن المراهق والمراهقة ووجدانهما نتيجة الثورة الدائبة المعتملة في ذنهما ضد كل قديم وتمسكهما بكل جديد. ولذا فإن على الأسرة بمساعدة رجال الدين أن تقدم الدين إلى المراهق والمراهقة في ثوب عصري جديد يناسب فكرهما ووجدانهما، وأن تجعل الفكر الديني فكراً وظيفياً نافعاً لحل مشكلاتهما الراهنة.

وهناك في الواقع بعض المحاذير التي ننبه إليها حتى تأتي التربية الدينية بالأسرة تربية سليمة مؤدية إلى تحقيق وظائفها الحقيقة:

أوّلاً: يجب ألا يستغل الدين لضرب التفكير العلمي لدى المراهق والمراهقة وقوقعة فكرهما في قوالب جامدة.

ثانياً: يجب ألا يعمل الدين على عزل المراهق والمراهقة عن الروح العصرية وعن التطور، بل يجب على الأسرة أن تواكب روح العصر وتطوراته بنظرة فاحصة تميز بين النافع والضار، وبين الجميل والقبيح، وبين اللائق وغير اللائق، وبين الخير والشر، والخروج بمحصلة تفاعلية بين الروح الدينية والروح العصرية.

ثالثاً: يجب ألا يصير الدين أداة للروح الرجعية، وذلك بنقل صور سلوكية كانت صالحة لعصر قديم إلى العصر الحديث. فالتربية الدينية يجب ألا تعمل على تطبيق ما كان سائداً بأحد المجتمعات القديمة في صورة طبق الأصل بغير مراعاة لروح العصر أو متطلباته، أو حتى مزاجه.

رابعاً: يجب ألا تستغل بعض النصوص الدينية أو الأحداث أو المواقف المتعلقة ببعض الشخصيات الدينية للحط من قيمة الفتاة المراهقة لحساب الفتى المراهق، أو لإذلالها أو إشعارها بأنها أقل قيمة من أخيها أو من أفراد فئة الذكور.

خامساً: يجب ألا تؤدى التربية الدينية إلى تربية جيل من المراهقين والمراهقات الخاضعين عقلياً والمنقادين لما يقال وقد فقدوا القدرة على النقد أو القبول والرفض. ذلك أنّ النقد والقبول والرفض خصائص عقلية هامة يجب الحفاظ عليها وتشجيع اعتمالها في ذهن المراهق والمراهقة وحياتهما اليومية.

سادساً: يجب ألا تعمل التربية الدينية على طمس ما بين المراهق والمراهقة من فروق جنسية. فالحذر من تخنث المراهق وفقدانه خصائص الذكورة، ومن تذكير المراهقة أو فقدانها لأنوثتها وجمالها ورقتها وعذوبتها، أو حتى كلفها برشاقتها وجاذبيتها.

سابعاً: يجب ألا تعمل التربية الدينية على الاعتداء على ما بين أفراد المراهقين والمراهقات من فوارق فردية. وذلك بالعمل على صب الأفراد جميعاً في قالب واحد لا يتغير. بل الواجب تشجيع كل فرد لأن يصبح كما خلق بغير طمس أو تزييف لحقيقة شخصيته.

ثامناً: يجب ألا تضعف التربية الدينية بالأسرة القدرة على التصور الفلسفي، وذلك بتلقي حلول جاهزة مسبقة ولدنية للمشكلات الفلسفية والعقلية والحياتية التي تجابه المراهق والمراهقة. ذلك أن عملية المعاناة الفكرية والنفسية في طور المراهقة هامة في تكوين الشخصية. أما هدوء الفكر واطمئنانه وسكون القلب وعدم جيشان الوجدان، فإن معناه خمول العقل وذبول الفكر وتقلص الثقافة.

تاسعاً: يجب ألا يلجأ الوالدان إلى الرياء والنفاق فيحاولان الظهور أمام أبنائهما المراهقين كقديسين. فالأب والأُم المنافقان ينكشفان بسهولة أمام النظرة النقدية لدى أبنائهما في هذه السن.

عاشراً: يجب ألا تستخدم التربية الدينية كأداء لتربية روح التعصب لدى المراهقين والمراهقات، بل يجب استخدامها لتشجيع التسامح والمحبة والمساواة بين الجميع والتسابق على الخير.►

 

المصدر: كتاب رعاية المراهقين

ارسال التعليق

Top