يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان/ 3-4)، وعن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «يقدّر في ليلةِ القدرِ كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل، خير أو شرّ، وطاعة أو معصية، ومولود وأجل ورزق، فما قدّر في تلك السنة وقضي فهو المحتوم، والله عزّوجلّ فيه المشيئة». قيل في تسمية ليلة القدر، أنّ الله سبحانه يقدّر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القادمة، وقيل: لعظيم شرفها، وقيل: لأنّ للطاعات فيها قدراً عظيماً، وثواباً جزيلاً، وقيل: لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة، كقوله تعالى: (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (الطلاق/ 7)، أي «ضُيّق». ليلة القدر من الليالي العظيمة عند الله تعالى، لما في ذلك من أجواء أحاطت بها، وجعلتها من الأوقات التي هي موضع تقدير وتقديس، ومحطة لتجديد العلاقة بين أهل الأرض وخالقهم. هي مناسبة تختصر الزمن في انفتاح العبد على ربّه وعلى كلّ معاني الخير والرحمة والسلام، ولا يكون ذلك إلّا بامتلاك سلاح الوعي والمعرفة، ومعايشة مفاهيم الرسالة في مضمونها لا أشكالها، فعلينا العمل على بناء أنفُسنا، وبناء جيلٍ يعي أكثر عناوينه ومحطّاته الإسلامية. فكم نحن اليوم بحاجةٍ إلى تهذيب أنفُسنا وأجيالنا، وتوجيه طاقاتها الروحية نحو معاني الخير والسلام والتسامح والمحبّة والمودّة. إنّ بإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كلّ وقت، ولكنّ لقاءه به في ليلة القدر شيء آخر، فهي: (خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) )القدر/ 3(، فالرحمة فيها تتضاعف، والعمل فيها يكبر، والخير فيها يكثر، وعطايا الله تتزايد، وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السلام التي يعيش فيها الإنسان روحية السلام مع نفسه ومع الناس، لأنّها تحوّلت إلى معنى السلام المنفتح بكلّ معانيه على الله، ليكون برداً وسلاماً على قلب الإنسان وروحه. ففي آخر السورة من سورة القدر يعبّر القرآن بـ(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، والسلام يراد منه هنا إشارة إلى العناية الإلهيّة بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه.
من هنا، نعرف مدى الشرف والحظوة لليلة القدر، وما خصّها الله به من التبجيل والتكريم، فعندما ننفتح على ليلة القدر وما فيها من بركات، يعني ذلك انفتاحنا على كتاب الله تعالى بما فيه من خيرٍ وبركةٍ ونفع.. وبالتالي، فإنّ إحياءنا لليلة القدر، يعني إحياءنا لتناولنا وتعاملنا وفهمنا وقُربنا من القرآن الكريم. حيث إنّ من أبرز ما تتميّز به ليلة القدر وتتشرّف به، نزول القرآن الكريم فيها. إنّ ليلة القدر التي فيها نزول القرآن، فيها كلّ خيرنا، وفيها كلّ دعوة وصرخة حتى نعود إلى خطّ الاستقامة والهدى وبناء الحياة.
ليلة القدر، كما يُقال، التي يقدّر فيها الرزق، وتقدّر فيها الآجال، لابدّ من أن تكون مناسبة حتى نثبت عمق إيماننا بالله، وارتباطنا بتعاليمه، والتزامنا بحدوده، وأن نعاهد الله تعالى على أن تكون أرزاقنا من حلال، ومن كدّ أيماننا وجهادنا، وأن تكون آجالنا عامرةً بذكره تعالى، مليئةً بالعمل الصالح والكلم الطيِّب والجهد في سبيل تأكيد الحقّ في كلّ مواقفنا وميادين حياتنا، وأن نكون قرآنيّين عملاً لا قولاً، من خلال تأكيد الخلق القرآني في واقعنا وعلاقاتنا، فلا معنى لحملنا القرآن شعاراً، من دون تطبيق لما فيه وفهم لمعانية وغاياته.
ومن عطاءات هذه الليلة المباركة، إنّها تجعل الإنسان يشمر عن ساعد الجد ليجد في القُرب من الله، ويسعى لأن يجعل ليلة كاملة هي في خدمة مولاه يتعبّد ويتقرّب إليه ويتخلّص من مغريات الدُّنيا ومشاغلها حين يفرّغ نفسه ووقته لله تعالى وعبادته فقط، وهذا الأمر من الطبيعي أن يكون له تأثير كبير على روحية الإنسان وتكامله وسيره نحو الله تعالى، خصوصاً وأنّ ليلة القدر - كما هو معروف - غير محدّدة، بل مخفية بين عدّة ليالٍ وهذا ممّا يقرّب الإنسان من الله أكثر وأكثر ويجعله يعيش في رحاب العبودية لله تعالى.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق