• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

موقع الأخلاق على خارطة الدين الإسلامي

موقع الأخلاق على خارطة الدين الإسلامي

◄بالإجابة الواضحة على أسئلة محدّدة يمكن أن يتّضح موقع الأخلاق على خارطة الدِّين الإسلامي، ومن بين أهمّها:

1-     هل يمكن بناء الأخلاق على غير الدِّين، أو هل هناك أخلاق بدون دين؟

الجواب:

الأخلاق هي النّباتات الطيِّبة والتي تبحث عن أرض خصبة لنموِّها، والدِّين هو تلك الأرض، ولا تنمو الورود النظرة إلّا في الحدائق، والفواكه اللذيذة إلّا في البساتين، والسنابل المثقلة إلّا على ضفاف الأنهار، ولذلك فأينما ذهب الدِّين قال للأخلاق: اصحبيني في رحلتي.. كوني معي فبدونكِ لا أحيا.

وتقول الدراسات الاجتماعية:

هناك ملحدون متخلِّقون، أي ذوي أخلاق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي، وفي الحقيقة فإنّ الملاحدة لا يجهلون الدِّين أو ينكرونه بل (يعادونه)، فهم لا يرفضون مبادئ الحبّ والإخاء والمساواة.

وعندما حاول المادِّيون بناء نظام أخلاقي، وجدوا أنّه من الصعب أن يُطلب من الإنسان (باسم الإنسان) أن يقوم بما يتطلّبه الدِّين (باسم الله)، ولذا اقترحوا (اللّجوء إلى الضمير) بدلاً من (الخوف من الله) كحافز على استقامة السلوك.

2-    هل الأخلاق سباحة مع التيّار أم ضدّه؟

الجواب:

السّير مع التيّار، هذه هي لغته:

ليس بالضرورة أن أعمل لآكل.. يمكن أن أسرق فاشبع معدتي.. واحتاج إلى المال فأسطو على مال غيري.. وإذا اعتدى عليَّ شخص أعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليَّ وأكثر.. اشتكي القلق والكآبة.. أعاقر المخدِّرات فأنسى.. تلحَ عليَّ الغريزة أرضيها بالطرق الممنوعة أو المحرّمة.. وإذا نامَ القانون أو غابَ تلاعبتُ به وفي وزنه وخرجتُ عليه..

السباحة ضد التيار.. لها لغة مختلفة:

هذا البيت ليس بيتي.. لا أدخل فيه إلّا بإذن أو إجازة.

وهذا المال ليس مالي.. لا أمدّ يدي لأسرقه أو اغتصبه.

هذا الموقع ليس موقعي.. لا اتجاوز على المؤهّلين فأحتلّه.

هذه المرأة ليست زوجتي.. لا اعتدي على شرفها أو اتحرّش بها جنسيّاً.

هذه الأمانة التي أودعت عندي، لا يحقّ لي أن أخونها بالإنقاص أو النكران، بل أرجعها سالمة متى ما طولبتُ بها..

السباحة مع التيّار سهلة.. لكنّها تقلّني أو تنقلني أو تجرفني كما تجرف القشّ إلى المهاوي والمساقط، فأحشر هناك كباقي القشّ محتقراً منبوذاً.

السباحة ضدّ التيّار صعبة.. لكنّها تقوِّي عضلاتي، وتجعلني أختار الجهة التي أريد، لا كما قال "جحا" عندما سُئل: إلى أين أنتَ ذاهب؟

قال: إلى حيث يأخذني حماري!

3-     هل من الممكن تصوّر رجل دين لا أخلاق له؟

الجواب:

يُقال: نعم، من الممكن تصوّر رجل دين لا أخلاق له، فالدِّين نوع من المعرفة، والأخلاق هي الحياة التي يحياها الإنسان وفقَ هذه المعرفة.

استمع إلى هذه الحكاية:

بينما كان الراهب (توما اللّاهوتي) في حجرته مُنشغلاً بمباحث مهمّة، إذ دخل عليه أحد رهبان الدّير، وقال له: يا أبانا.. قُمْ سريعاً وانظر حماراً يطير!!

فقام في الحال وأخذ ينظر ويقول: أين هو؟

قال الراهب: عجباً يا أبانا، هل تُصدِّق ما قلتُ لك؟!

قال الراهب توما اللّاهوتي: نعم، أصدِّق أنّ الحمار يطير، ولا أصدِّق أنّ الراهب يكذب!!

(الدِّين) إذن يُعلِّمنا كيف نفكِّر، وكيف نؤمن، وكيف نعتقد، وكيف ننظر إلى الأمور نظرة صحيحة، وأمّا (الأخلاق) فتُعلِّمنا كيف نتصرّف، وكيف نتحكّم برغباتنا، وكيف نغيِّر سلوكنا وضعفنا.

الدِّين يقول لي: إذا أردتَ أن تنجح في الامتحان.. اجتهد وادرس جيِّداً واتعب واسهر لكي تحصل على النجاح.

الأخلاق.. تُعلِّمني أن لا أغشَ لكي أنجح، ولا أدفع رشوة للحصول على النجاح، ولا أزوِّر شهادة النجاح، ولا أسرق جهد غيري فاعتبره جهدي، ولا أكذب لأحقِّق بعض مطالبي.

4-     مَن الذي يقود الآخر: (الدِّين) أم (الممارسة الأخلاقية)؟

الجواب:

الممارسة الأخلاقية حافز قويّ على الدِّين.

وفي الترجمة القرآنية لهذا المعنى، يقول الله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/ 92)، الآية لا تقول: (آمِن تُصبح خيِّراً)، بل تقول: "إفعل الخير تُصبح مؤمناً"!

وتلك هي الإجابة على السؤال الكبير: كيف يمكن للإنسان أن يُقوِّي إيمانه؟

إفعل الخير.. تجد الله أمامك.. إفعل الخير.. تزدد إيماناً.. إفعل الخير.. تكن من أهله، بل ومن المشتهرين به.. إفعل الخير.. تقوِّي حاسّة الخير في نفسك..

وبالتالي.. فنوال البرّ (إيمان).. والإنفاق المالي (عمل).. فمَن يؤدِّي إلى الآخر؟

الآية تقول: (الإنفاق) يقود إلى (الإيمان)؛ لأنّه الترجمة العمليّة الصادقة لمفاهيم: الحبّ والتعاون والإحساس.

ولكنّنا نحتاج إلى مُحرِّك ومُحرِّض على الإنفاق وهو الإيمان، وهكذا نفهم المسألة، فالإيمان يدفع إلى إعانة المحتاجين، ومعونتهم تزيد فيه وتوصل إلى أعلى درجاته.

5-     هل الأخلاق (ضرورة) أم (اختيار)؟

الجواب:

لمّا كان للأخلاق هذا الحيِّز الكبير أو المساحة الواسعة من حياتنا والموقع البارز والمتميِّز من سلوكنا، والمؤثِّر في سعادتنا وشقائنا، والمنشِّط للعلاقات الاجتماعية فيما بيننا، فهي (ضرورة) إنسانيّة وحياتيّة، بل وحاجة أساسيّة وليست اختياراً أو مزاجاً، بمعنى أقبلها أو أرفضها.

إنّ رفضي (للرحمة) يعني قبولي بـ(القسوة) أو سكوتي عنها.

ورفضي (للحبّ) يعني قبولي لـ(الكراهيّة) أو التواطؤ مع المبغضين.

ورفضي (للعدل) يعني قبولي لـ(الظّلم) أو المشاركة فيه.

ورفضي (للزّواج) يعني قبولي بالفحشاء والزنا واللواط أو السّحاق..

أمّا (انحيازي) للحبّ وللرحمة وللعدل وللزواج، فليس انحيازاً أعمى، أو ميلاً بدون دليل مقنع، إنّه انحياز لـ(خير) وطالما أنّني أردتُ الخير كعامل مهم من عوامل سعادتي، فهو خياري الذي لا أتنازل عنه.

6-     كيف يمكن أن تتحوّل أخلاقي إلى مواقف إنسانيّة تجاه الآخرين، أو كيف يتحوّل سلوكي إلى دين؟

الأخلاق ثقافة عمليّة.. وهي التأثير الإيجابي للدِّين على حياتي، بل هي (الفنّ) الذي أكون به إنساناً؛ لأنّها خلق مستمرّ لذاتي.

الأخلاق تقول لي: إنّ (الإحساس) للآخرين يزيد في محبّتهم لك وثقتهم بك. فإذا أدخلتُ هذه الفكرة في رصيدي الثقافي، وإذا احتجتُ إليها سحبتها من الرصيد لأوضِّفها في علاقاتي الاجتماعيّة، أكون قد حوّلتُ ثقافتي الدينيّة والأخلاقية إلى (موقف) وإلى (ممارسة).. وهذا هو المراد من كلّ ثقافة.

والأخلاق تقول لي: إنّ (البُخل) ينفِّر الآخرين منك.

فتتحوّل الفكرة إلى رصيد ثقافي أيضاً، لكنّني هنا لستُ بحاجة إلى تجربتها حتى أتأكّد من نفور الناس منِّي، طالما أنّ البخلاء قبلي قد تركوا أرشيفاً أسود وتأريخاً سيِّئاً لسُمعتهم كبُخلاء ممّا يجعلني في غنى عن تكرار تجاربهم، إلّا إذا أردتُ تنفير الناس منِّي بتجريب المجرّب، ولا يوجد عاقل يرغب بذلك أو يحبّ تجريب المجرّب الذي أثبتت التجربة فساده وبطلانه.

7-     هل الإنسان بما (يفعل) أو بما (يرغب ويريد)؟

هل يحكم الدِّين على الأعمال بالنّوايا والدّافع والمحفِّزات والبواعث التي تنطوي عليها، أم بالنتائج التي تترتّب عليها؟

يُجيب الدِّين على هذا السؤال بالقول:

لكي نعرف القيمة الخُلقية لإنسانٍ ما، علينا أن ننظر في داخله، وحيث أنّنا – كبشر – لا نستطيع ذلك بطريق مباشر، فإنّنا نصرف نظرنا إلى أفعاله، ولكنّ هذه الأفعال هي مجرّد رموز للدلالة على الإرادة الداخلية، ومن ثمّ فهي أيضاً رموز للتقييم الأخلاقي.

هذا يعني:

أنّ (النِّية) وهي قصدي وغرضي من فعل معيّن (حرّة)، أمّا أدائي أو (عملي) فهو خاضع للشروط والظروف المحيطة، أي أنّ الذي يُمثِّلني دائماً هو (نيّتي) لأنّها أصدق في التعبير عنِّي.

والدِّين يقول:

أنتَ خيِّر ما أردتَ أن تكون خيِّراً، حتى ولو اعتبر الآخرون خيرَك شرّاً، وأنتَ شرِّير ما أردتَ أن تكون شرِّيراً حتى ولو بدا في شرِّك خيرٌ للآخرين.

ويقول لي بلهجة واضحة صريحة:

لو قصدتَ فعل الخير – على أساس أنّه خير – فستنال على ذلك ثواباً، وإن لم تلتفت – أثناء الفعل – إلى فكرة القُرب إلى الله تعالى؛ لأنّ هذا الفعل، بهذه النيّة محقّق للقُرْب، ويُعتبر واقعاً في سبيل الله.

فالإنسان يستحقّ الثّواب لو أتى بفعل الخير، لأنّه خير، وخدم الناس لأنّه محبّ لخدمتهم وإعانتهم وقضاء حاجاتهم، فهو بذلك ينشر قيم الدِّين، ولقد ورد في ثقافتنا الإسلامية أنّ (حاتم الطائي) المشهور بكرمه وسيرته العطرة، قد ينال شيئاً من رحمة الله تعالى في الآخرة لما عُرِفَ عنه من كرم وسخاء قبل الإسلام، حتى أنّ النبيّ (ص) قال لابنته (سفانة) التي وصفت أباها بأنّه يُطْعِم الفقير ويسعى في فكاك العاني الأسير، بأنّ ذلك من قِيَم الإسلام.

ويقول الدِّين أيضاً بثقة عالية بالنّفس:

"مَن بلغه ثواب من الله على عمل، فعمل ذلك العمل التماسَ ذلك الثواب أوتيتهُ (أي أعطيَ له)، وإن لم يكن الحديث كما بلغه" أي قد لا يكون الحديث قد قيل فعلاً.

ومثل ذلك: "مَن سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له (أي يحصل عليه) وإن لم يكن على ما بلغه".

فالمهمّ هنا هو (قصد فعل الخير) والنيّة الطيِّبة المنبعثة من فطرة سليمة.

هل تحبّ الخير؟ وتسعى له وتعمل به وتدعو له؟ حتى إذا لم يكن هناك نصّ يؤكِّد ذلك ويؤيِّده.. أنتَ إذن متديِّن!

ويقول الدِّين كذلك وهو يُقدِّر الخير حقّ تقديره:

"ما أحسن محسنٌ من مسلم ولا كافر إلّا أثابه الله. قيل: ما إثابة الكافر؟ قال: إن كان قد وصل رحماً، أو تصدّق بصدقة، أو عمل حسنة أثابهُ الله تعالى المال والولد والصحّة وأشباه ذلك. قيل: وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذاب دون العذاب"، أي عذاب أدنى وأقلّ من عذاب الكافرين الذين لم يُحسِنوا.

ومفاد ذلك كلّه:

أعمال الخير.. الأعمال الصّالحة.. أعمال البرّ.. الأعمال المباركة.. والأعمال النافعة.. هي دين؛ لأنّها تلتقي مع مفاهيمه في العُمق: (الدِّين المعاملة)، (الدِّين الحب)، (الدِّين النّصيحة)، (الدِّين اليُسْر)، (الدِّين الأخوّة)، (الدِّين حياة صالحة).. الدِّين خدمة الناس.. الدِّين نفع الناس.

ويُنقل أيضاً: "أنّ العابد من أتباع موسى (ع) كان إذا بلغ الغاية في العبادة (أقصاها وأعلاها) صارَ مشّاءً (كثير السّعي) في حوائج الناس، عانياً (أي يُتعب نفسه) بما يُصلحهم"!

وأقرن بين كلمة (بلغ الغاية في العبادة) و(مشّاءً في حوائج الناس) حتى تفهم حقيقة الدِّين كمنهج للحياة الصّالحة.

وورد في الحديث القدسي: أنّ الله تعالى أوحى إلى إبراهيم (ع) أنّ ابنِ لي بيتاً، فبنى بيتاً، وتكرّر النداء ثلاث مرّات، وفي كلِّ مرّة يستجيب إبراهيم (ع) ويبني بيتاً، ثمّ قال: يا ربِّ بنيتُ بيوتاً؟! فأتاه النِّداء: يا إبراهيم، هل أطعمتَ جائعاً؟! هل كسوتَ عُرياناً، هل قضيتَ حاجة محتاج؟ هل آمنتَ خائفاً؟...

ممّا يعني أنّ المسجد (وهو بيت الله) ليس فقط المادِّي من الطوب والطابوق، بل المعنويّ أيضاً وهو إدخال السرور على قلوب المساكين وقضاء حوائج المحتاجين.

وأمّا الاستدلال الأكبر، فقوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون/ 1-7).

بالمعادلات الحسابيّة هذا يساوي:

(التكذيب بالدِّين) = عدم كفالة ورعاية اليتيم (وهو نموذج لرعاية كلّ مَن يحتاج إلى رعاية)، وعدم إطعام المساكين مع القدرة على ذلك. (وهو نموذج لكلِّ إسناد مادِّي) ومنع أي مساعدة ممكنة ومتاحة لمَن يحتاجها.

(التصديق بالدِّين) = خدمة عباد الله ومساعدتهم والإحسان إليهم ابتغاء مرضاة الله، وذلك هو الدِّين الصادق غير المزيّف.

من ذلك يمكنك أن تفهم اجتماعيّة الدِّين، واهتمامه بسدِّ الثّغرات، وإرسال الإمداد لكلِّ جبهة تحتاج إليه.

8-     هل يمكن لي أن أكون مُحايداً (غير مُنحاز) للأخلاق؟ لا. لا يمكن أن تكون مُحايداً بالنسبة للأخلاق، فإمّا أن تكون صادقاً في أخلاقك أو كاذباً، أو مازجاً بين الصِّدق والكذب.

الحياديّة تعني الوقوف على التلّ.. لا أشارك في هذا ولا أشارك في ذاك، لا أقف مع الحقِّ ولا أقف مع الباطل (وهذا في التقييم النهائي وقوف مع الباطل لأنّه سكوت عن الحقّ).

لا حياديّة في الأخلاق.

إمّا أن أكون (صادقاً) في قولي وفي عملي وفي مواقف حياتي، وتفاصيل سيرتي اليوميّة، وإمّا أن أكون (كاذباً) أُزيِّف الحقائق.

وإمّا أن أخلط بين الكذب وبين الصِّدق، فأبدو منافقاً أو ازدواجيّاً أو متناقضاً.

إذْ:

كيف (يخون) مَن آمن بـ(الأمانة)؟

وكيف (يسرق) مَن اعتقد بـ(النزاهة)؟

وكيف (يكذب) مَن عُرِفَ بـ(الصِّدق)؟

وكيف (يتحايل) مَن اختبر السّير على خطِّ الاستقامة والسلامة؟

كيف (أكون) و(لا أكون) في نفس الوقت؟

كيف أكون (شجاعاً) و(جباناً) في نفس اللّحظة؟

الأخلاق الإسلامية لا تقبل (الشِّرك) أو (الشّراكة).. فهي تريدك لنفسها وحدها لا غير.. لا تقبل بالضُّرة.. وترفض (التلوّن)!

يقول علماء النّفس:

حالة المزج بين الخُلق النظيف وضدّه أكثر شيوعاً بين البشر، فالناس قد يتصرّفون بشكل مختلف، ولكنّهم يتحدّثون بطريقة واحدة من العدل والحقّ والصِّدق والحرِّية والمساواة.

ويقولون من وحي البحث والتجربة:

إنّ "النِّفاق"، وهو زيف أخلاقي يُبرهن على قيمة الأخلاق الصحيحة، مثلما تفعل النقود المزيّفة ذات القيمة المؤقّتة بالنسبة للنقود القانونيّة ذات القيمة الدائمة!!

النِّفاق برهان على أنّ كلّ إنسان يتوقّع أن يتطلّب سلوكاً أخلاقيّاً نزيهاً من جميع الناس الآخرين، فحتى (الكاذب) يريدك أن تُصدِّق معه؛ لأنّه يعرف أكثر من غيره كم لفّق وافترى على الناس وكواهم بتزييفه للحقائق، فلا يريد أن يكتوي بنارها.

وحتى (الغشّاس) يريدك أن تكون ناصحاً معه فلا تغشّه؛ لأنّه يُدرك تماماً أنّ الغشّ خلاف الحقيقة. فبائع اللّبن الذي يخلط اللّبن بالماء هو أكثر من الزبائن معرفة أنّ لبنه مغشوش حتى ولو انطلى لبنه على الشّاربين ولم يلتفتوا إلى غشِّه!

هل عرفتَ الآن أنّ (عذوبة الصِّدق) لا تمحوها ولا تصادرها (ملوحة الكذب) وأنّ الكاذبين يتذوّقونه كما يتذوّقه الصّادقون، ممّا يدلّ على أنّ (العذوبة) مطلب الجميع، وأنّ زبائنها كثيرون!

علماء الاجتماع يقولون:

كثيرٌ من الناس لا يعرفون سبيلاً لدفع الظّلم، ولكنّ جميع الناس قادرون على كراهيّة الظّلم واستهجانه في داخلهم، وفي هذا يكمن معنى الندم.

9-    هل تلتقي (الأخلاق) مع (العلم) دائماً؟

لا. فليس من مسؤولية العلم أن يُقدِّم لي قيماً ومعايير أو مفاهيم أخلاقية، فتلك هي مسؤولية الأخلاق.

والذين يفصلون بينهما يضربون المثل التالي:

العلم يقبل (القتل الرحيم) – كقتل طفل مشوّه للخلاص من عذابات مستقبليّة – أو قتل إنسان يتعذّب في مرضه لا راحته، وما شاكل..

الأخلاق ترفض ذلك؛ لأنّ (الدِّين) لا يقبل بالقتل في مثل هذه الحالات، والعلم يصنع أسلحة دمار شامل.. والأخلاق ترفض بشدّة قتل الأبرياء من البشر والحيوانات والنّباتات، وكلّ أشكال إفناء الحياة عمداً.

10- هل الأخلاق النفعيّة هي أخلاق حقيقيّة وأصيلة؟

يقول (بنتام) صاحب (مذهب المنفعة) في علم الأخلاق: "لقد أخضعت الطبيعةُ البشر لحكم سيِّدين، هما: (اللّذة) و(الألم)، فهما وحدهما اللّذان يحكمان أفعالنا".

ولكنّنا لو درسنا طبيعة الأخلاق لرأينا أنّها ليست (مُربحة) دائماً، فأخلاقيّة التضحية والإنفاق تبدو أخلاقيّة خسائر؛ لأنّك تفقد أو تعطي أشياء مهمّة كالنفس والمال، ولذلك قيل: لو كانت الفضيلة مُربحة حقّاً لتسارعَ إلى اقتحامها الانتهازيّون ليكونوا نماذج للفضيلة.

ولكنّ الكلام لا يبدو دقيقاً حتى في حساب الرّبح، فالأخلاق والفضائل (مُربحة) على المديين: القصير والبعيد.

مُربحة على المدى القصير لما تحقِّقه من آثار طيِّبة في المجتمع وراحة الضمير.

ومُربحة على المدى البعيد.. لأنّ جزاءها الجنّة ورضا الله سبحانه وتعالى.

يقول الفيلسوف اليوناني الشهير (أرسطو): "حتى مع الموقف البطولي نحنُ لم نبرح حقل الأنانيّة؛ لأنّ أولئك الذين فقدوا حياتهم من أجل الآخرين قد اختاروا الأعظم والأجمل لأنفسهم".

خذ هذا المثل:

إذا اقتحم الإنسان منزلاً يحترق لينقذ طفلاً لجاره، فهل نستطيع أن تقول أنّ هذا الإنسان فعل ذلك من قبيل الأنانيّة، ومن أجل ذاته؟

واستمع إلى هذه القصّة الواقعيّة:

شبّ حريق في بيت مجاور لأحد الأثرياء، فخصّص جائزة بمئة دينار لمَن ينقذ طفلاً في الداخل، فتصدّى أحد الشبّان الغيارى واقتحم النيران وأنقذ الطفل الذي كان هناك. وحينما أراد الثّري أن يفي بوعده ويقدِّم الجائزة، رفض الشاب قبولها قائلاً: كلٌّ ينفق ممّا عنده، أنتَ أعطيتَ المال وأنا أعطيتُ غيرتي على حياة الطفل، وكلٌّ منّا مُثابٌ عند الله تعالى.

ولذلك يجب أن نفهم (الغيريّة) – أي الاهتمام بشؤون الغير أو الآخرين – فهماً مختلفاً فالدِّين لا يدعوكَ إلى (نكران ذاتك) أو (سحق ذاتك)، بل يقول لك: (أكِّد ذاتك) في الإيجابيّ.. ارتفع بذاتك عن السّلبي.. إنّ لنفسك ثمناً فلا تبيعها بغير الجنّة.

ليس لدينا في الدِّين (نُكران الذّات) بل لدينا الارتفاع بالذات والسّمو بها من مستوى التفكير الواطئ بالاهتمامات الخاصّة أو الضيِّقة فقط، إلى مستوى التفكير العالي بالاهتمامات العامّة أيضاً.

11- هل الأخلاق ضدّ الحرِّية باعتبارها تقييداً وتحريماً أحياناً؟

الجواب:

ليس كلّ تقييد مُضرّ.

بعض التقييد مفيد.

ولا توجد مُحرّمات بغير معنى.

فلو منعتني من الدخول إلى غرفة فيها غازات سامّة، ودفعني الفضول للدخول إليها، فلربّما اختنقتُ ودفعتُ حياتي ثمناً لتهوّري واندفاعي غير المقيّد وعدم احترازي باستخدام القناع الواقي.

ولو لم يحرمني القانون – كسائق – من تناول الخمرة التي تُلغي عقلي وسيطرتي، لأصبحتُ أبلهاً أو مجنوناً أو تائهاً تقودني سيارتي ولا أقودها، وما أكثر الحوادث التي يرتكبها السكارى.

ولمَ لم أتلمّس مخاطر الكذب عليَّ وعلى الآخرين، لكنتُ ألوكهُ كما ألوك اللبان (العلكة)، غير عابئ بما يجرّه تشويه الحقائق من خسائر كبيرة.

ولو لم أقدِّر الأضرار التي يسبِّبها الزِّنا والبغاء، لكنتُ تيساً أو زيراً لا يُراعي في مزاولة فحولته عفّةً ولا أدباً ولا تهذيباً ولا حشمةً ولا عُرفاً اجتماعياً ولا انضباطاً.

الخلاصة..

(الحرام).. (الممنوع) هو لحمايتي من الانزلاق والتهوّر والشّطط والخروج على القانون، أي لحماية الآخرين من استهتاري، وحماية نفسي من إسفافها وإسرافها، وهو في كلا الحالين (قيد) محبوب ومطلوب ولابدّ منه.. لأنّه (حصن).

12-  هل بإمكان الأخلاق أن تجعلني أكثر قدرة وكفاءة ونفعاً للجميع؟

الجواب:

الأخلاق تقول لي: عامِل الناس باحترام، يبادلونك بمثله أو بأحسن منه، واخلص لهم يزدادون حبّاً وثقةً وتقديراً لشخصيّتك واعتزازاً وتشبّثاً بك.

العامل في شركة ما.. والذي يحترم نظامها وضوابطها والعاملين معه، والذي يؤدِّي دوره ومسؤوليّته على أحسن ما يُرام لا يكسب رضا وحبّ المسؤولين عنه فقط، بل يشعر أنّ أداءه يتحسّن باستمرار، وأنّ كفاءته تزداد، وأنّه عضو نافع لا يُستغنى عنه، وبالتالي فهو يكسب رضا نفسه وسعادتها وثقته بها أيضاً، ذلك أنّ الجوّ الأخلاقي (تفاهم وحبّ وانسجام واحترام) كفيل بأن يجعل مواهبك وطاقاتك تتفتّح وتزهو وتُثمر وتنمو باستمرار.

13- هل الحقائق الأخلاقيّة ثابتة لا تتغيّر؟

تذكّر هذا دائماً:

إنّ جميع معلِّمي البشرية – أنبياء وغير أنبياء – قد علّموا الناس الأخلاق نفسها، ممّا يعني أنّ الأخلاق ثابتة وضرورية وحاجة أساسيّة، ولذلك فإنّك ترى أنّ الوصايا الأخلاقية الجوهرية لا تتأثّر بالزمان والمكان أو الظروف الاجتماعية.

إلقِ نظرة على أمثال الأُمم والشعوب والحِكَم والأقوال الخالدة، وستصل إلى حقيقة مفادها أنّ الأخلاق (لغة عالميّة) مشتركة لها معانيها المتقاربة عند جميع الناس مهما اختلفت ألوانهم وألسنتهم وجغرافيّتهم أو تأريخهم وعاداتهم وتقاليدهم.

يقول أحد المؤرِّخين: "إنّ جميع المعضلات والمشاكل المعروفة اليوم كانت معروفة في الأخلاق منذ أكثر من ألفي سنة مضت".

إنّ حكمة الأديان الحيّة، ومحاسن الكلام، وروائع الحكمة تتكلّم – في جميع الأزمنة – بلسان واحد لا تفاوت فيه؛ فقبل ثلاثمائة سنة قبل الميلاد، قال (أفلاطون): "لا تكُن ممّن يتسرّع إلى الغضب فتتسلّط عليك عادات السّفهاء، كُن مُغيثاً للّذي في البلاء، إن لم تكن أعمالهُ الإراديّة هي التي ألقت به في البلاء، ولا تحكم قبل أن تسمع كلام الخصمين، ولا تكُن حكيماً بالقول، بل كُنْ حكيماً بالعمل، فإنّ الحكمة التي بالقول لا تبقى، والحكمة التي بالعمل تنفعك في العالم الآتي، وكُنْ في كلِّ وقت تُعدّ زاداً كما يُعِدّ مَن يرتحل في ليلته تلك... إلخ".

بعدَ قرونٍ وقرون من الآن.. سيقول حكيمٌ من الزمان الآتي كلاماً سوف لن يفترق كثيراً عن هذا الكلام.

هذا على صعيد الحِكَم والأقوال. أمّا على الصعيد العملي، فإليكَ هذا المثال:

كان من بين أهداف الثورة الثقافيّة بالصّين، إعادة تعليم الشباب رفض الحبّ بين الجنسين باعتباره اتّجاهاً برجوازياً (يختصّ بالطبقات المترفة)، وسمحوا به فقط إذا كان حبّاً للوطن والاشتراكية وللزعيم (ماو تسي تونغ)، وقالوا: إنّ الحبّ في أصله الطبيعيّ أعشاب سامّة ومن مُخلّفات المجتمع البائد، حيث يجب القضاء عليه.

بعد موت (ماو تسي تونغ) عادت رواية (تولستوي) العاطفيّة (أنا كارنينا) للظهور في المحلّات وأكشاك الكتب، فكان الناس يقفون لشرائها في طوابير يبلغ طولها أحياناً مئة متر!

ماذا يعني هذا؟!► 

ارسال التعليق

Top