• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصوم.. عملية تعبدية

أسرة البلاغ

الصوم.. عملية تعبدية

الصوم، وما أدراك ما الصوم إن لم تكن من عداد المسافرين على متن سفينة الإسلام إلى الله.. إنّه يختصر المسافات، ويقرب الأبعاد، وصولاً نحو الهدف العظيم ألا وهو الفوز الكبير بالإقامة والسكنى، في مكان، فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، متمتعاً بما تشتهي الأنفس، وما تلذ الأعين، بعيداً عن نكد الدنيا، وما فيها من المآسي، وما تكابد فيها من العذاب، هي "سجن للمؤمن وجنة للكافر". والصوم في الواقع هو عملية تعبدية محضة، فسح الله فيه في المجال أمام عالمٍ الإنسان المكلف، فإن كان هذا المكلف بعيداً دخل في الصوم، وأجراه، والتزم به من خلال شهر رمضان المبارك ليصبح في ضيافة الحضرة الإلهية، وأقل شيء يناله هذا الضيف هو الرحمة التي تسمح بركوب سفينة الرحمة. وإن كان من المقربين، وطوبى للمقربين، فإنّ منازل الجنان ومراتبها خير ما يتنافس المتنافسون على التسابق إلى تبوئها، طلباً للزحزحة عن النار ودخول الجنّة... إنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل التعبد فروعاً وأصولاً، عامة وخاصة، شاملة ومحددة، مطلقة ومقيدة، من التكاليف التي فرضها وحضّ عليها، وسبب القيام بمضامينها الصحيحة فوزاً عظيماً، وفي الابتعاد أو التجنب بغير عذر، معصية تكون، سبباً للعقاب بنار "وقودها الناس والحجارة". لكنه، سبحانه وتعالى، جعل الصوم له، وهو يجزي به، وما ذلك إلّا من رحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء. وما دام الأمر كذلك، وما دامت الجائزة عظيمة لا يمكن مقارنتها بالمكافآت الدنيوية جميعها، فما هي التفاصيل أو المفهوم العام الذي يجب الالتزام به في عملية الصوم لكي يحصل المكلف على الثواب العظيم الذي ذكرناه؟. ويدخل في الاعتبار كون شهر رمضان المبارك هو الفرصة التي تتكرر في كلّ سنة مرّة واحدة، حيث تقفل أبواب النيران، وتصفد الشياطين، وتنشر رحمة الله الواسعة، بساطاً للتائبين والعاكفين والركع، بعيداً عن مواصلة اتباع الشهوات. ويمكننا اجمال مضمون شهر الله أنّه شهر التوبة والمغفرة اللتين من خلال تحصيلهما كثواب للقيام بالأوامر، والابتعاد عن النواهي، أي فعل الواجبات، والابتعاد عن المحرمات صغيرها وكبيرها، يصل المكلف إلى ما وعد الله سبحانه من مغفرة عظيمة وفوز عظيم. إنّ الصوم ليس الامتناع عن الطعام، أو عن بعض الطعام، كما يعتقد الكثيرون من المكلّفين، ولكنه في الحقيقة والواقع عملية تعبدية تتعلق بالداخل الإنساني وخارجه. أما صوم الداخل الإنساني فهو امتناع الإنسان عن التفكير بالمعصية إن أمكن ضمن حضور الوعي عنده لما يقوم به ويتوسل به، بمعنى صوم النفس الإلهية وجعلها حاكمة على كلّ الأنفس الباقية من حيوانية وأمارة بالسوء وغيرهما، مما يشكل لجماً للغرائز، وتقييداً للشهوات. وأمّا صوم الخارج، أو صوم الإنسان بما يتعلق في الخارج، فهو صوم الجوارح التي يستعين بها القلب والعقل لترجمة ما يشعر به القلب، وما يفكر فيه العقل، ترجمة صحيحة تجسد وفقاً للمعايير الشرعية التي حددها الفقه في مظانه... وهكذا إن استطاع المكلف، وبعد مجاهدة شاقة أن يخضع داخله وخارجه إلى الموازين التشريعية الصحيحة، فلابدّ والحال هذه أن يفوز في امتحان شهر رمضان المبارك الذي هو شهر من أفضل الشهور، ولما فيه من البركات والنتائج التي يتوقف عليها مصير الإنسان في الدنيا والآخرة. إنّ الابتعاد عن المحرّمات وفعل الواجبات في هذا الشهر هي التي تحقق للإنسان المكلّف الذي خلق أصلاً للعبادة، ما يصبو إليه من الحصول على مغفرة الله ورضوانه، بل قل العودة الصحيحة إلى الطريق السويّ الذي يجب أن يسلكه المكلّف في عبوره لهذه الدنيا، متخطياً كلّ مصاعبها وويلاتها، لينتهي به الأمر، عن طريق الالتزام بالإسلام وتعاليمه، إلى الفوز العظيم.. وبعد أن نأخذ بعين الاعتبار والتبصّر، كلّ ما تقدم، وما لم نقله عن الصوم والصائمين في هذه العجالة، ألا يستحق الصوم وقفة تأمل منا، قبل حلول الأجل الذي لابدّ منه، وصدور النتائج بعد الموت، لامتحان الحياة الدنيوية، ليتحصل لنا ما نتمناه من فوز بجنان الله وجناته؟!. وبعد أن علمنا علم اليقين فوائد الصوم في الآخرة أكثر منها في الدنيا بالمقارنة، ومع إثبات العلم الحديث فوائد الصوم على الجسد بما يتضمنه من نفس وجوارح، ألا تستحق تلك الفوائد العظيمة، الجهد المطلوب للحصول عليها، وهل هناك عاقل يأبى أن يكون من الفائزين؟! جعلنا الله وإيّاكم من الصائمين، المتعبدين، التائبين.

والصيام هو أحد روافد التقوى المهمة في هذا البرنامج وقد أفصح عن ذلك الذكر الحكيم قائلاً: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 45-46). ومن هذه الآية نفهم أنّ الرجوع عبارة عن عملية تربوية تدريجية مستمرة تحقق للإنسان الراجع إلى الله صفة الاطمئنان المطلوبة له ولا تتحقق إلّا من خلال بوابة الخشية إلى الله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة/ 8). 

ارسال التعليق

Top