• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقل في عصر الفضاء

خليل حنا تادرس

العقل في عصر الفضاء
◄سواء أردنا أم لم نرد فدنيانا تتغير بسرعة فائقة. وعقل الإنسان هو الذي يغيرها، واليوم من الصعب أن نفكر في وجود شيء يستحيل أن يبرع فيه الإنسان.

هذا لأنّ الإنسان قد اكتشف أنّه إذا ما استطاع تصور شيء في عقله؛ فإنّ قوة خلاقة عجيبة في شعوره يمكنها في وقت ما أن تبرز هذا الشيء في حياته الخارجية؛ وعندما قال بيرون: إنّ الأفكار أشياء.

كان ينطق بحقيقة عميقة فإذ تفكر في فكرة أنت تقوم بعمل إنشائي.

وإذا ألبسنا هذه الفكرة رداء الشعور، ونشطناها برغبة قوية لكي تظهر فإنّ الفكرة أو الخاطر، تبدأ في اتخاذ شكل، وتنمو مثل بذرة، وتجذب نحوها الظروف والفرص والمصادر وكلّ الحوادث الضرورية للمساعدة على إخراجها إلى ما نسميه عالمنا المادي.

والمشكلة الوحيدة هي أنّ الرغبات المتهورة وغير المحكومة يمكنها أن تجلب أفكاراً هدّامة إلى حيز الوجود تماماً مثل الأفكار البناءة؛ وبذا تمطرنا اللعنات بجوار البركات.

وتذكّر أني قلت: إنّ الدنيا تتغير بسرعة فائقة، ونحن أنفسنا نغيرها بعقولنا؛ وهذه حقيقة لا يمكننا التهرب منها والتي قد تخفى عن الكثيرين منا؛ ونحن نسلم الآلات الأكثر فالأكثر من أعمالنا في الدنيا ناسين أنّ هذه الأجهزة التي وفّرت كثيراً في الوقت وجهد الذهن إنما صنعها عقل الإنسان.

ويمكن غالباً للآلات الآن أن تؤدي كلّ شيء إلّا التفكير والتناسل؛ والإنسان الميكانيكي "الروبوت" سوف يغزو الفضاء سريعاً؛ ولأنّها ليس لها صفة الشعور فإنّها سوف لا تهتم بالسجن الانفرادي أو قلة الطعام أو مرور الزمن، أنها سوف تسجل بطريقة آلية المعلومات لخدمة الإنسان في المستقبل عندما يصبح أكثر تحكماً في ظروفه، ويصبح هو آلة اللحم والدم التي تحل محل زميله الإنسان الميكانيكي الذي أخلى له السبيل.

ولقد عُرِف الآن أنّ العقل يتكون من سلسلة من النبضات الكهربية مضافاً لها عامل حيوي هو الشعور – فإذا لم يكن هناك شعور فإنّ الإنسان نفسه سيتصرف مثل الإنسان الميكانيكي؛ وعلى كلٍ فهذه الملكة العجيبة للشعور، والإدراك النابع من النفس، والمقدرة على تقييم التجارب هي التي جعلت الإنسان وحيداً في تفوقه على الحيوانات الأخرى.

إنّ الإنسان طاقة موجهة بالذكاء؛ وإذا ما أصبحت يوماً الآلة واعية لنفسها فخذ الحذر؛ فإنّ الإنسان قد أعطاها الميكانيكية الفعّالة والطاقة التي تحتاج إليها ولو أنّ الإنسان سوف يظل يضغط على الأزرار.

والسؤال هو: كيف بدأ الإنسان الضغط على أزراره هو؟ ما الذي رفع الإنسان من كائن غريزي إلى كائن ذكي واعي بنفسه وبدأ ينسج مستقبله؟. ما الذي أعطاه فكرة ذلك عضوين معاً لكي يصنع النار ولينحت الأسلحة البدائية من الحجر؟ وأن يخطو بعد ذلك الخطوات؟.

فهل هذه هي عملية التطور التي تأخذ مكانها في كواكب أخرى عديدة حيث توجد مخلوقات شبيهة لنا في الذكاء وقد مرت بمرحلة الأسلحة الحجرية؟

وهذا يؤدي بنا إلى أسئلة عديدة عديمة الإجابة في التو، هل المخلوقات العليا في الكواكب الأخرى تتصرف في مغامراتها – القائمة على الانحلال النووي – بطريقة أفضل مما لدينا؟ أم هم وقد تقدموا من خلق النار البسيطة إلى النار الكونية ما زالوا يفكرون بأسلوب البقاء للأصلح؛ ولو على حساب إبادة أنفسهم؟

وكم يساعدنا أن نعرف ذلك ونحن نُعدُ العُدة لنقوم بزيارة مفاجئة ودية أو غير ودية إلى الكواكب الأخرى المسكونة، ألا ترانا الآن نحاول فعلاً أن نسقط أي واحد يحاول زيارتنا قادماً من الفضاء؟

إنّ تجاربنا المحدودة لم تمكنا بعد من افتراض أنّ الكائن الأكثر ذكاء يستحق منا ثقة أكبر – والطبيعة الحيوانية في الإنسان تحاول السيطرة عليه، لقد تغلّب هو عليها عقلياً لا عاطفياً؛ وبينما قام إنسان الغاب يسيطر بالعصا فالإنسان المتمدين يحاول الآن أن يسيطر بواسطة القوة الذرية والصواريخ الموجهة؛ وما زال دم الإنسان يغلي بالرغبة في النصر الفيزيقي وبالشهوة في إخضاع الآخرين لإرادته – كلّ هذا لأنّ الإنسان ما زال يؤمن بنفسه، إنّه يظن أنّ الأفضل هو قهر الآخرين أولاً قبل أن يقهر هو نفسه؛ والأفضل في نظره هو أن يعلو على المجموعة وإلّا فالمجموعة سوف تقضي عليه.

 

سوف نظل نسير قُدُماً:

وعلى كلّ حال فالإنسان يتقدم رغماً من كلّ أخطائه وأطماعه وأحقاده ومخاوفه وهمومه؛ إنّ عقل الإنسان يفتح أبواباً جديدة، ويكتشف مراتب جديدة عديدة الجوانب وربما لها أبعاد جديدة.

وهناك اتفاق عامٌ اليوم على عقل الإنسان يمتلك قدرات الحس الزائد ولدينا برامج تلفزيونية تمثل هذه الحقيقة – وكلمة أ. ح. ز. تظهر الآن في أدبنا وقواميسنا ويصرح الرجال والنساء الآن بدون أي خوف من سخرية بأنّه قد مرت بهم تجارب روحية.

وكان يعتبر من الأعمال الرائدة منذ (25) سنة عندما تمكنت أنا والسير هوبرت ولكنز من إظهار إمكانية اتصال العقل بالعقل بدون نظر للمسافة المقطوعة – ولكن كلما زاد إيمان الإنسان في تقبله بأنّ التلبثة أي: (التخاطر) شيء ممكن عمله كلما وجد نفسه متزايد الإمكانية في استقبال انطباعات فكرية أصيلة.

وهنا نجد أحد الأسرار العظيمة التي تقف وراء عمل قوة العقل الخلاقة؛ ألا وهو الإيمان – لقد قال الفلاسفة على مر العصور: إنّ أي شيء يمكن عمله يمكنك أن تجعله يكون.

إذا قلت لعقلك اللاشعوري مثلاً: إنّه من المستحيل عليه أن يعبر الزمان والمكان فإنّك لن تمارس أبداً الإدراك الحسي الزائد. إذ أنّ عقلك اللاشعوري لا يمكنه التعليل؛ وأقولها ثانية: إنّه يمكنه أن يتبع أوامرك التي يقدمها له عقلك الشعوري ليس إلا.

ولكي تجعل هذه القوة الخلاقة تنتج لك في أي خط من خطوط كفاحك يجب عليك أن تنشطها بإيمانك في مقدرتها على خدمتك.

لقد اعتقد أينشتين أنّه يستطيع العثور على الإجابة على لغز الكون ويضعها في صورة معادلة عملية وأصرّ على سؤاله الرياضي؛ وفي إحدى الليالي في حلم، وإن كان شيئاً أكثر من حلم رأى الكون موضوعاً أمامه في تصميم هندسي عجيب واستغرق عدة أسابيع لكي يستطيع أن يضع على الورق ما رآه في ومضة ذهنية.

فكِّر فيما يمكن أن يساهم به عقل واحد لكي يغير الحياة على كوكب بأجمعه؛ فكِّر في العقول العظيمة التي ذهبت من قبل وكلّ منها ساهم بنصيب في المجموع الكلي للمعرفة التي لدينا اليوم – لقد استغرق اسحق نيوتن ستة عشر عاماً لكي يفهم معنى سقوط تفاحة من الشجرة؛ ولكن بعد أن كشف قانون الجاذبية قال في تواضع: إني أدين الشيء الكثير إلى الذين سبقوني؛ لقد وقفت على أكتاف الجبابرة.

والبشرية كلّها اليوم تقف مرتجفة غير آمنة على أكتاف الجبار – ألا وهو العلم – إنّ عالماً جديداً يولد بسرعة لا تلحق خطاها عقول البشرية أو عواطفها.

إنّ عصر الفضاء يتفجر تحت أقدام أذهاننا؛ إنّه لا يعطينا أية فرصة للتوقف وللحاق به.. ويقول لنا علماء الفلك أننا نعيش في عالم متمدد وأنّ مجموعتنا القليلة من الكواكب تتماسك بواسطة شمس مفردة.. وأنّ هناك على الأقل مائة مليون مجرة في الكون تحتوي على شموس لا حصر لها، وأنّ الخلق ما زال مستمراً، وأنّ هناك شكاً قليلاً في وجود ملايين الكواكب المسكونة المجهولة لنا.

ويجب أن يكون واضحاً لك أنّه ليس الكون فقط هو الذي يتمدد – إنّ التمدد الأعظم والأكبر إدهاشاً طرأ وهو ما يحدث في مملكة العقل اللامحدودة سواء كان عقلك أم عقلي وكلّ عقل؛ لقد تطور الإنسان إلى الحد الذي سوف يضطر عنده لحماية نفسه وأن يحكم بعقله لا بعاطفته، فإذا سمح لمشاعر الكراهية والمرارة والطمع وما شابه ذلك لتتحكم فيه مثلما حدث في الماضي؛ فإنّ ذلك قد يحطم الجنس البشري على هذا الكوكب، إنّ الإنسان في مفترق الطرق بين القوى الحيوانية الموجودة فيه وبين خطوة إلى أعلى حتى يحكم العقل بدلاً من العاطفة يجب عليه أن يختار بين قانون الغاب وقانون المدنية الوضاءة.

وعصر الفضاء الجديد يجب أن يبين أين هو مفترق الطريق؛ حيث يمكن للإنسان أن يترك ماضيه المتوحش وراءه ويدخل في إدراك جديد لإخوانه في البشرية؛ وإلّا فإنّ الإنسان سوف ينزلق إلى الوراء إلى العصور المظلمة مرة أخرى.

 

إننا نصنع عالمنا:

والسبب في ضرورة توقع كلا المصيرين المتضادين هو أنّ الإنسان مخلوق للإرادة الحرة والاختيار الحر؛ وما من إله سيضطره ليتخذ قراره لعمل الخير أو الشر، إنّ ذلك قطعاً شيئاً يخص الإنسان وحده.

ومنذ أن صنع الإنسان عالمه خلال العقل حتى هذه اللحظة الحاضرة فعالم الإنسان في المستقبل أيضاً سوف يكون من صنع يده، وسوف تكون بداية العالم الجديد بك وسلوكك الذهني تجاهه وتصرفك تجاه أخيك الإنسان ما تفكره فهو أنت؛ وما تفكره أو تشعر به الغالبية العظمى من الناس على هذا الكوكب، سيحدد نوع العالم الذي يُبنى الآن.

إنّ الشعور يعطي للعقل الثقة؛ إنّه ينشط القوة الخلاقة فيه ويجعلها تنتج مرغوباً أو مرهوباً؛ وإذا كانت مشاعر الناس قد أثارتها قيادة فاسدة فالذي سوف يدمر الإنسان ليس الآلات ولا الأسلحة التي بناها وإنما هو نفسه.

وإذا ما عزم الإنسان على أن يتقدم خطوة في تطوره من أجل التحكم في مشاعره خلال عقله ولا يخضع بعد لإملاء العواطف؛ فعالم ملئ بالعجائب والجمال وفوق التصور، سوف يتفتح أمام البشر.

وسوف نتصل في يوم ما – عقلاً بعقل – بمخلوقات عاقلة على كواكب بعيدة – وسوف نتعلم كيف نصل إلى هذه الكواكب بالسفر بسرعة تقرب من سرعة الضوء؛ ولكن أفكارنا تكون قد وصلت قبل مركباتنا الفضائية؛ لأنّ الفكر هو أعظم القوى في الكون.

إنّ هذا لوقت عظيم لكي يعيش فيه الإنسان على هذا الكوكب.. ها هو عالم جديد يتفتح للبشرية.. عالم في داخل وعيه.. عالم من الحواس الزائدة.. عالم وراء البصر والسمع والشك واللمس والذوق الفيزيقي.. عالم من الوعي الممتد الذي فيه يرى الإنسان، ويسمع، ويستقبل انطباعات عن الحوادث الماضية والحاضرة والمستقبلة؛ مستقلاً تماماً عن أعضاء جسده.

إنّه لعالم ليس محدوداً مكاناً أو زماناً – وعندما يكتسب الإنسان السيادة على الشعور الأعلى داخله، فقطعاً سوف يحل لغز وجوده هو.. من هو.. وما هو حقاً.. من أين أتى؟ وإلى أين هو ذاهب مع موت الكائن الفيزيقي الذي يسكنه الآن؟

وهكذا كان ما قاله لي السير هوبرت ولكنز منذ ربع قرن لا يزال صالحاً اليوم بدرجة أكبر؛ فبعد كلّ مغامراتنا في الفضاء الخارجي تظل المِنطَقَةُ الأعظم أهمية والأعظم إثارة – والتي تنتظر الاكتشاف – ألا وهي مِنطَقَةُ عقلِ الإنسان نفسه.►

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة/ ستون طريقة لجعل حياتك أفضل

ارسال التعليق

Top