• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العلاقات الإجتماعية الصالحة في القرآن/ ج (1)

أسرة

العلاقات الإجتماعية الصالحة في القرآن/ ج (1)
العلاقات البينيّة في المجتمع الصالح على ضوء الرّصد القرآني لها تنقسم بشكلٍ أساسٍ إلى علاقات بينيّة ثنائية، كعلاقة الأب بابنه والإبن بأبيه، والزوجة بزوجها، والأخ بأخيه. وعلاقات بينيّة إجتماعية كولاية المؤمنين، والإحسان لفقراء المجتمع، ورعاية حقوق الأقلّيات في المجتمع، وهذا ما سنتبيّنه من خلال القراءة القرآنية التالية لذلك كلِّه.   1- أصالة النفس الواحدة: قال تعالى: (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1). أنشأ الخلق (البشر) من أصلٍ وصلبٍ واحد وهو (آدم) (ع)، وأوجدَ من النفس الواحدة زوجها (حوّاء) (ع)، ونشرَ – جلّت قدرته – من آدم وحوّاء خلائق وأناساً كثيرين ذكوراً وأناثاً، ولذلك فإنّ قانون الأُخوّة الإنسانية يحكمنا جميعاً كوننا من أب واحد وأمّ واحدة، وأنّ صلة الرحم الإنسانية أوسع إطاراً من صلة الرحم القرائبية، ولذلك نجد الوصيّة في عدم قطع الأرحام، والإقتران بين (صلة الرحم) وبين التقوى، تأتي في سياق أصل الخلق للدلالة على أهميّة هذه الرابطة الإنسانية، فليس الناس جميعاً من أصلٍ واحدٍ فقط، بل هم إخوة في الإنسانية والنسب أيضاً، ومن هنا تأتي أهمية التعارف والتعاون والتلاقح والتزاوج والتبادل الإنساني، هذا هو سرّ (سعادة) البشر و(أمنهم) و(تطوّرهم).. تأمل في هذه الروح الموضوعية القرآنية بدقّة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً...) (الروم/ 21). (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...) (التوبة/ 128). (.. فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...) (النور/ 61). (.. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ...) (الحجرات/ 11). (.. مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...) (المائدة/ 32).   2- المُساواة بين الجنسين: قال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 35). إنّ المتمسِّكين بأوامر الإسلام المتخلِّقين بأخلاقه – رجالاً ونساءً – هم عند الله تعالى على قدمٍ سواء، أي أنّهم يقفون من الله على مسافة متساوية، وهذا العطف بين الخصال والخصائص يمكن أن نطلق عليه بـ(عطف التسوية)، وبالتالي فإنّ المجتمع الصالح عربة يجرّها حصانان، أو جسد يمشي بقدمين، أو طائر يطير بجناحين، فلا يُقال إنّ الجناح الأيمن هو الذي يرفع الطائر ولا يُقال إنّ الأيسر هو الذي يُساعده على التحليق، فحينما تشترك اليدان في الغسل لرفع القاذورات، لتبدوان أكثر نقاءً، فإنّ الفضل من طهارتهما أو حملهما للثِّقل يعود لكليهما معاً، وإن امتاز كلّ بخصائص يُراد بها التكامل لا التفاضل قال سبحانه: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ...) (آل عمران/ 195). والمُلاحظ في العقوبات الجزائية أنّ يد السارق والسارقة تُقطع بلا فرق وأنّ كلاً من الزاني والزانية يُجلدان بنفس الحد بلا تمييز جنسيّ.   3- تنظيم العلاقة الزوجية الصالحة: أ- وجوب التعفّف لحين الزواج: قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور/ 33). ليجتهد الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية في العفّة والتحكّم بالشهوة حتى يوسِّع الله عليهم ويُسهِّل عليهم أمر الزواج، فإنّ العبد إذا اتّقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً. ب- الترغيب بالزواج: قال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة/ 187). اللباس هو أقرب شيء للجسد، وهو يحميه من البرد ويقيه من الحر، ويحفظه من بعض المخاطر، ويستر عيوبه، ويُزيِّنه، فالزوجان يحفظ كل منهما الآخر ويوفِّر له سُبُل الراحة والطمأنينة، وكل منهما زينة لصاحبه، والإرتباط بينهما ليس مادياً فقط، بل هو معنوي يقوم على المودّة والرحمة، والتعاون على البر والتقوى أيضاً. ت- هدية المهر: قال تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) (النساء/ 4). اعطوا النساء مهورهنّ عطيّة عن طيب نفس، فإذا وهبنَ لكم شيئاً من صِداقهنّ (مهرهنّ)، فخذوا ذلك الشيء الموهوب حلالاً طيِّباً. والمهر حقّ المرأة لا يجوز التجاوز عليه بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وهو ينفعها عند افتراقها عن زوجها، أي أنّه جبران لما قد يلحق بها من خسارة. ث- زواج الصالحين: قال تعالى: (الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور/ 26). حتى يكون الزواج صالحاً، لابدّ من تجانس الأشكال وتوافق الطباع، فالآية ليست في وارد الحديث عن حتميّة اجتماعية، بل في سياق التأكيد على ضرورة اختيار الزوج الصالح زوجة صالحة حتى ينجبا الذريّة الصالحة التي ترفد المجتمع الصالح وتنمِّيه. قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) (النور/ 32). أي زوِّجوا العزّاب من أهل التُّقى والصلاح، لأنّ في الزواج إحصاناً لدينهم. ج- قيمومة الرجل: قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء/ 34-35). من أجل صلاح الأسرة وتماسك البناء الأسري، جعل الله سبحانه الرجال قائمين على النساء في الإنفاق والتوجيه والرعاية تماماً كما يقوم الراعي على رعيّته، إنّه المدير وهي معاونه. والنساء قسمان: صالحات مطيعات، وعاصيات متمرِّدات. فأمّا الصالحات القائمات بما عليهنّ من واجبات في تحقيق أجواء المودّة والرحمة، وحفظ أنفسهنّ عن الفاحشة، وحفظ أموال أزواجهنّ عن التبذير، وكتمانهنّ لأسرار بيوتهنّ، فهنّ سبب في صلاح الأسرة. وأما العاصيات اللاتي يتكبّرن ويرفضن طاعة الأزواج فيما لايخالف طاعة الله، فعلى الأزواج أن يسلكوا معهنّ سُبُل الإصلاح بتخويفهنّ من غضب الله بطريق النصح والإرشاد، فإن لم ينجح الوعظ والتذكير، فالهجر في الفراش، وإن لم يرتدعن فالضّرب غير المبرّح هو آخر الداء، فإن أطعنَ فلا يجوز إيذائهنّ بعدها. وإن خيفَ الخلاف العنيف والعداوة بين الزوجين فليتدخّل ذوو الشريكين ويوجِّهوا حكماً عدلاً من أهل الزّوج وحكماً عدلاً مع أهل الزوجة، ليجتمعان وينظران في أمرها ويفعلان ما فيه المصلحة. ح- حسن معاشرة الزوجة: قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة/ 228). وقال سبحانه: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء/ 19). وقال جلّ شأنه: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (البقرة/ 231). فكما أنّ للرجال حقوقاً على النساء، فكذلك للنساء حقوق على الرجال أيضاً، فيجب عليهما مراعاتها كلٌّ من جانبه، لأنّ الإسلام نصّ على حقوق متقابلة ومتبادلة ومتعادلة بينهما. فلم ينحز لطرف دون طرف، ولم يخالف أن يناقص في الزوجين دعوته للعدل والإحسان. خ- تأمين الإحتياجات الضرورية للأسرة: قال تعالى على لسان موسى (ع) لأهله: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (القصص/ 29). قيل إنّ أهل موسى (ع) كانوا يشتكون البرد، فخرج يطلب إليهم ناراً يستدفئون بها. والرجل مطالب بتأمين احتياجات أسرته الضرورية بحسب قدرته واستطاعته، كونه المسؤول الأوّل عن تلبية تلك الحاجات بما يضمن لهم الحياة الكريمة والسلامة د- مراعاة خصوصية موقع الزوج الإجتماعي: قال تعالى في خطاب لنساء النبي (ص): (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا) (الأحزاب/ 32). زوجة القائد أو الشخصية الإسلامية أو المؤمن بصفة عامة تختلف عن سائر النساء من جهة كونها قرينته، فإذا ما أحسنت كان مردود ذلك طيِّباً عليها وعلى زوجها وعلى الأسرة كلها، والعكس بالعكس. ذ- مراعاة أسرار البيت والزوجة: قال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (التحريم/ 3). إفشاء الزوجة لأسرار زوجها معصية، على المرأة الصالحة أن تحذر منها، فهي مؤتمنة على أسراره كأتمانها على أمواله وكأتمانها على طهارة بيته وسمعته من أن تلوّث بما يُسيء إليها. وأسرار الزوجة كذلك مصونة لا يجوز للزوج أن يفشيها، والبيوت – كما يُقال – أسرار والمجالس بالأمانات.   4- وقاية النفس والأهل من النار: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم/ 6). من أجل أسرة مسلمة صالحة لابدّ من صيانة الأنفس والأزواج والأولاد من نار جهنّم، بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، وبأن يسعى الأب لتعليم وتأديب أسرته، ويجب أن تعينه في مهمّته الصعبة تلك زوجته، ممّا يتطلّب حفظ نفسيهما ممّا قد يشوِّه صورتهما في نظر أولادهما. وقد سُئل الإمام الصادق (ع) عن قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).   5- دائرة الإحسان الإجتماعي الواسعة: قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) (النساء/ 36). دائرة الإحسان الاجتماعي في الإسلام أوسع من علاقة برّ بالوالدين، فهي إذ تستوصي بهما خيراً وإنعاماً وإكراماً، توصي كذلك بالإحسان إلى الأقرباء عامّة، واليتامى والمساكين خاصّة. وتولي الجار القريب الذي له أكثر من حقّ: حقّ الجوار، وحقّ القرابة، وحقّ الإسلام، والجار الأجنبيّ الذي لا قرابةَ بينك وبينه، درجة عالية من الإحسان أيضاً، بل ويمتدّ جناح الإحسان ليطوي تحته رفيق السفر، والجار المُلاصق للدّار، والقاعد إلى جنبك في مجلس أو صف دراسي (زميلاً أو غير زميل)، ومَن له أدنى صُحبة. يُضاف إلى ذلك الإحسان إلى المُسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله إمّا لشحّة ماله أو نفاده نهائيّاً، وتتصاعد لهجة التوصية بالإحسان بالعبيد والإماء ويقابلهما اليوم من الخادمات والمستخدمين وسائر الأجراء، وكل مَن له فضل علينا صغيراً كان الفضل أم كبيراً.   6- رعاية الطّبقة السُّفلى: قال تعالى على لسان قوم نوح (ع): (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء/ 111-114). الطبقة السفلى في المجتمع هي البسطاء والضعفاء والفقراء والمساكين، ولقد أحتجّ الأثرياء من قوم نوح (ع) على رعايته واهتمامه بهذه الطبقة الدونية في نظرهم، فما كان جوابه إلا أن قال أنّه ليس مطلعاً على السرائر والضمائر، فذلك شأن الله فهو وحده العارِف ببواطن الأمور، ومَن هو أقرب إليه، وبالتالي فقد رفضَ إبعادهم وطردهم من مجلسه. يقول الإمام علي (ع) في وصيّته لمالك الأشتر – رضي الله عنه – في ضرورة الاهتمام بالطبقة الإجتماعية السفلى: "ثمّ الطبقة السُّفلى من أهل الحاجة والمسكنة، الذين يحقّ رفدهم (مساعدتهم) ومعونتهم". مؤكِّداً أنّ الرعية (الشعب) طبقات لا يصلحُ بعضها إلا ببعض.   7- دعوة الأقرباء إلى الصلاح: قال تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) (الشعراء/ 214). الأقربون أقرب إلى فهم قريبهم وربّما كانوا الأسرع في إجابة دعوته، فضلاً عما تعطيه دعوة الأقرباء إلى الهدى والإيمان والصلاح من صدقيّة لدعوة الداعية في إرادة الخير لأقربائه وذوي رحمه. يقول الإمام علي (ع) في اعتبار العشيرة ظهيراً للإنسان المؤمن: "وأكرم عشيرتك فإنّهم جناحكَ الذي به تطير، وأصْلَكَ الذي إليه تصير، ويدكَ التي بها تصول".   8- البيوتات الصالحة: قال تعالى على لسان أخت موسى (ع): (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) (القصص/ 12). في الآية الكريمة إشارة إلى شرورة انتخاب البيوت الصالحة والأسر الكريمة لرعاية الطفل وتربيته وتنشئته على الصلاح. بل إن انحدرَ الإنسان من بيتٍ صالحٍ باعث على الاطمئنان في توظيفه اجتماعياً. يقول الإمام علي (ع) في عهده لمالك الأشتر: "ثمّ الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة". على أنّ اختبار المُنحدِر من بيت صالح بالصِّدق والأمانة أمرٌ يفرضهُ العقل ومصلحة العمل.   9- ولاية المؤمنين: قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71). المؤمنون إخوة في الدِّين يتناصرون ويتعاضدون في إرساء المجتمع الإيماني الصالح بما يلتزمون به من نهج الصلاة وخط الإستقامة، وبما يأمرون الناس بكلِّ خير وصالح وجميل يُرضي الله وينفع العباد، وينهوهم عن كلِّ سيِّئ ومُسيء يُغضِب الله وينفِّر الناس، بما يؤدّون حقّ شروط الصلاة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، وبما يعطون ويفعلون من إحسان بالزّكاة والصدقات، وإطاعة الله في كلِّ أمر ونهي. قال سبحانه: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) (الأحزاب/ 6). وشرط الولاية في المجتمع الإيماني الصّالح هو الحبّ في الله والبغض في الله، ففي الأوّل قوله تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 68). وقال عزّ وجل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران/ 31). وفي الثاني، قول الحق سبحانه: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران/ 28). والإستثناء لِمَنْ يخاف الأذى والشّرّ وتهديد حياته بالخطر، فإظهار الموالاة باللِّسان دون القلب حماية للفرد وللكيان.   10- الشّفاعة الحسنة (الوساطة الحميدة): قال تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) (النساء/ 85). يحتاج الإنسان في مسيرته الإجتماعية إلى مَن يشفع له شفاعة حسنة موافقة للشرع إذا كان مستضعفاً أو من ذوي الحاجة والمسكنة، فالشفيع أو الوسيط الحميد إنما يشكر الله على ما أنعمَ عليه في ما يخدم به الناس من مال أو ثروة أو جاه أو موقع.   11- التعالي على البيئة الإجتماعية الفاسدة أو اعتزالها: قال تعالى في تعالي موسى (ع) على البيئة الفرعونيّة: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص/ 8). وقال سبحانه في تعالي (آسية بنت مزاحم) زوجة فرعون على البيئة ذاتها: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم/ 11). ليس من الضرورة إذا نشأ المؤمن في البيئة الكافرة أو الفاسدة أو المتحلِّلة أن يكون سنخاً أو جزءاً منها، فقد نشأ يوسف (ع) في بيت العزيز ولم تؤثِّر عليه أجواء التفسّخ الخُلقي، ونشأ موسى (ع) في بيت فرعون ولم يتأثّر بأجواء الغطرسة والإستبداد، ونشأت آسية بنت مزاحم في بيت فرعون وأبّهة السلطان وثروة الملك، ولم تنجرّ لمتاع الدنيا، ونشأ مؤمن آل فرعون في أوساط الكفر والطغيان، وتسامى بفكره وسلوكه عليها. وقد لا يجد المؤمن سبيلاً للتعالي على مجتمعه الفاسد والمنحطّ والغارق في الكفر والعصيان، فلا يرى أمامه إلا اعتزاله سبيلاً للنجاة بدينه، كما فعل إبراهيم (ع). يقول تعالى على لسان إبراهيم (ع): (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم/ 48). وقال سبحانه: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الصافات/ 98-99). وكما فعل الفتية أصحاب الكهف حينما لم يجدوا حلّاً سوى اللجوء إلى الكهف فراراً بدينهم من دين الشِّرك والضلالة. قال تعالى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف/ 10).   12- طبيعة العلاقة مع غير المسلمين: قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة/ 8-9). يريد الله تعالى للمؤمن أن يكون واعياً دقيقاً في علاقاته، وأن يكون إنسانياً إيجابياً فيها حتى مع الذين يختلفون معه في الرّأي إذا لم يعادوه ويشنّوا الحرب ضدّه، فالآخر المسالم – حتى ولو اختلف معي في عقيدتي – يسمح لي بإقامة علاقات تعايش سلميّ معه، بل ويدفعني إلى تقديم الخير إليه في شتّى مجالاته المادِّية والمعنوية والعلميّة، وأن أتعامل معه بالعدل، فالمعيار في التعامل مع الآخر غير المسلم والمسالم هو (الخير العمليّ) و(العدل الإسلامي). أمّا الذين يقفون في الضِّدِّ من حرِّية المسلمين، وحركتهم في الدعوة إلى الله، بل ويقاتلونهم على أساس العقيدة والعمل، فلا انفتاح عمليّاً عليهم. وقد تكون هناك ظروف ضاغطة يضطرّ فيها المسلمون إلى إقامة علاقات مع الدول المعادية من أجل المصلحة الإسلاميّة العُليا عندما يقدِّر المعنيّون ذلك أو يرجِّحون إيجابيّات العلاقة على سلبيّات المقاطعة.   13- الصّحبة الصّالحة: قال تعالى: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف/ 67). وقال سبحانه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا) (الفرقان/ 27-29). الصّحبة الصالحة هي التي تفضي بالأصدقاء والأخّلاء والإخوان في الله إلى مرضاة الله وجنّته، فيما يسود بينهم من تواصي بالحقِّ والصبر وبالخير وبالمرحلة وبالبرِّ والإحسان والعمل الصالح، وبما يصنعون من مجتمعات إسلامية مصغّرة تجتذب الصالحين إليها، ولذلك تنقلب الصداقات الدنيوية في يوم القيامة إلى عداوات إلا صحبة الصالحين، فاكتساب أخ في الله يعني ضمانة بيت في الجنة، علاوة على ما يشيعانه من أجواء الصّلاح في محيطهم الإجتماعي في الدنيا.   14- البنيان المرصوص: قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/ 4). البناء الإجتماعي المتماسك ليس حاجةً في الحروب والمعارك فقط، بل هو مطلوب في كلِّ عملية بناء اجتماعي أسريّ أو مؤسِّسي أو حكومي، والبنيان المرصوص هو البناء المحكم الذي تبدو قطعهُ وأجزاؤه – حتى الصغير منها – متلاحمة ومشدودة يشدّ بعضها بعضاً حتى لتبدو قطعة واحدة، وجسماً واحداً، وكياناً واحداً، وبناءً واحداً. ولذلك كانت المجتمعات التي لا تستغني عن طاقةٍ من طاقات أبنائها مهما بدت محدودة أو صغيرة، أكثر نجاحاً وتطوّراً من المجتمعات التي تهمل الطاقات البسيطة.   15- التنافس في الخيرات: قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطفِّفين/ 26). وقال سبحانه: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) (الصافحات/ 61). المجتمع الصالح أشبه بخليّة نحل كلّ ما فيه عمل وحيوية ونشاط وإنتاج وأدوار ومسؤوليّات، حتى إلا شذّ بعضه لفظتهُ الخليّة، وإذا تقاعس وتكاسل وقعد عن العمل بعض أفراده أبطلت الخليّة عضوية انتمائه إليها. فليرغب المؤمنون العاملون بالمبادرة إلى طاعة الله، وليتسابقوا في الخيرات لنيل أعلى الدّرجات، والتنافس مأخوذ من الشيء النفيس الذي يحرص الناس عليه. فطالما أنّ أبناء المجتمع متّجهون إلى غايةٍ واحدة هي لقاء الله تعالى والفوز برضوانه وجنّته، كان لابدّ للعاملين أن لا يدخروا وسعاً، وأن يجتهد المجتهدون في اغتنام فرصة العمر المحدودة للفوز بالنّعيم المقيم.

ارسال التعليق

Top