• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العلاقة مع النفس ومحاسبتها

جمعية المعارف الإسلامية

العلاقة مع النفس ومحاسبتها

◄إنّ علاقة الإنسان بنفسه ونظرته إليها يحددان مسار ومصير الإنسان، إنّ في جنات ونعيم ورضا الرب الغفار، أو في عذاب وجحيم وغضب الرب الجبار.

فالذي يرضى بالقليل من العمل ويستكثره، ويعجب بنفسه وينقاد لرغباتها ولا يتعاهدها بالإصلاح لا يلبث أن يخسر، وهذا هو حال الغافلين غير المغفول عنهم، وأما المتقون فشأنهم الزهد بالكثير وعدم الرضا بالقليل، وهم لأنفسهم متهمون.

وقد تحدث القرآن الكريم والرويات الشريفة عن النفس الإنسانية ومراتبها وضرورة تزكيتها وعدم التغافل عنها، نورد الحديث عن إحدى منازلها لتستبين سبيل المتقين.

 

النفس اللوّامة:

قال تعالى: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة/ 2)، النفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها لوماً شديداً على ارتكاب الشر أو التقصير في عمل الخير.

إنّ المراد بلوم النفس أن يعتاد الإنسان على ملاحظة نفسه في أقوالها وأعمالها وحركاتها وسكناتها ليتابعها ويراجعها حين تنحرف أو تهم بشيء من الانحراف ليعيدها إلى الصراط ويلزمها به، وكذلك يراجعها وهي تسعى في مجال الخير ليفجر فيها ينابيع النشاط والقوة والاجتهاد حتى تزداد من الخير وتجتهد في ميدان البر، والإنسان بهذه الفضيلة الأخلاقية القرآنية يقيم من نفسه على نفسه حارساً يقظاً حذراً يمنعها من السوء ويدفعها إلى الطيب من العمل والقول والتفكير، وكأن هذه المتابعة للنفس هي ما يسميه أهل عصرنا بسلطة الضمير، فحتم على كلّ ذي حزم آمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه.

والمؤسف في دنيا الناس أننا نجد الكثيرين منهم يلومون غيرهم ويقسون في الحكم على سواهم، ويحصون على من عداهم كلّ صغيرة وكبيرة ثمّ هم لا يفكرون في أن يردعوا أنفسهم بعقاب أو عتاب. وذلك بخلاف المفاهيم الإسلامية التي تأمر بحسن الظن بالآخرين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات/ 12)، وسوء الظن بالنفس (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف/ 53)، وفي الرواية عن رسول الله (ص): "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك".

 

محاسبة النفس كلّ يوم:

ورد في رواية أنّ رسول الله (ص) أوصى أبا ذر فقال: "يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنّه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن تُوزن، وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية". وعنه (ص): "يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمِن حلال أو من حرام. يا أبا ذر من لم يُبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار".

وعن الإمام زين العابدين (ع): "ابن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وما كانت المحاسبة من همك، ابن آدم إنك ميت، ومبعوث، وموقوف بين يدي الله فأعدَّ جواباً".

 

استشعار التقصير:

"فَهُمْ لأنفسهم مُتَّهِمُونَ".

إنّ من دلائل الإخلاص وعلامات المخلصين اتهامهم لأنفسهم بالتقصير في حق الله، وعدم القيام بالعبودية لمالك الملك، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون/ 60)، فالمتقي يحاول دائماً أن يتهم نفسه ليكتشف العناصر السلبية الخفيّة في داخلها، فغياب الشعور بألم الذنوب الصغيرة مثلاً، وسيلة كبرى لاقتراف ذنوب كثيرة وعن الإمام الصادق (ع): "إياكم ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً، وإنها لتجتمع على المرء حتى تهلكه". ومهما كانت همة الإنسان، إلا أنّه عليه دائماً أن يُشْعِرُ نفسه بأنّه مقصر، وأنّه مفرِّط، وليس ذلك من أجل اليأس والإحباط، وإنما من أجل الرُّقي ببناء النفس، وإعطائها الاهتمام الأكبر...

عن الفضل بن يونس عن أبي الحسن (ع) قال: أكثر من أن تقول: اللّهمّ لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من التقصير، قال: قلت له: أمّا المعارون فقد عرفت إنّ الرّجل يعار الدّين ثمّ يخرج منه، فما معنى لا تخرجني من التقصير؟

فقال: كلّ عمل تريد به وجه الله فكن فيه مقصّراً عند نفسك فإنّ الناس كلّهم في أعمالهم في ما بينهم وبين الله مقصّرون إلّا من عصمه الله.

وعن رسول الله (ص): قال الله عزّ وجلّ: "لا يتّكل العاملون لي على أعمالهم التي يعملونها لثوابي، فانّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عباداتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جنّاتي ورفيع الدرجات العلى في جواري ولكن برحمتي فليثقوا، وفضلي فليرجوا، وإلى حسن الظنّ بيّ فليطمئنّوا".

ومن الوسائل العملية التي تساعد الإنسان على الشعور بالتقصير ما يلي:

1-    صحبة أصحاب الهمم، لأن ذلك يُفضي مباشرةً إلى الإقتداء واكتشاف الضعف الذي لديك، وهذا مؤشر قوي في اكتشاف نفسك من ناحية التقصير...

2-    قراءة سيرة الرسول (ص)، فسيرته تعطر الهمم، وتستنفر العزائم، وتنير الدروب، فلو قرأ الإنسان في كلّ يوم صفحتين من سيرته الخالدة لكان ذلك أدعى إلى علاج النفس بصورة مباشرة وغير مباشرة، وكذلك سيرة أهل البيت (ع)، ولقد قام رسول الله (ص) كما في رواية الاحتجاج عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال الله تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 1-2)، بل لتسعد به.

فالمتقون (لا يرضون من أعمالهم بالقليل) لأنّهم خلقوا للنضال والعمل، لا للبطالة والكسل، وفي الوقت نفسه لا يغالون في قدراتهم، ولا يخدعون أنفسهم بالغرور والمباهاة، بل يخافون من الخطأ والتقصير فلا يقنعون بالقليل لعلمهم بشرف الغايات المقصودة من العبادات وعظم ما يترتّب عليها من الثمرات، وهو العتق من النار والدّخول في الجنّة والوصول إلى رضوان الله الذي هو أعظم اللذات وأشرف الغايات.

كما أنّهم (لا يستكثرون) من أعمالهم (الكثير) ولا يعجبون بكثرة العمل ولا يعدّونه كثيراً وان أتعبوا فيه أنفسهم وبلغوا غاية جهدهم، لمعرفتهم بأنّ ما أتوا به من العبادات وإن بلغت في كثرتها غاية الغايات زهيدة قليلة في جنب ما يترتّب عليها من الثّمرات ومن الخصال.

عن الإمام الصادق (ع) قال: "قال إبليس: إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل فانّه غير مقبول: إذا استكثر عمله، ونسي ذنبه، ودخله العجب".

 

خوف المدح والتزكية:

للإنسان حياتان: باطنية وظاهرية، والظاهر للناس، أما الباطن فلله ولصاحبه، فهو وحده من بين الخلائق يستطيع أن يتأمل دخيلته ويعرفها، ولا سبيل إلى معرفة الآخرية بها إلا عن طريقه. قال تعالى: (يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (القيامة/ 13-14)، والناس في غالبيتهم يحبون الإطراء والمدح والثناء، وهذا يلبي رغبات النفس، ولكن ذلك قد يؤدي إلى إعجاب المرء بنفسه كما تقدم، ولذلك كان للمتقين موقف آخر ينسجم مع الرغبة في تهذيب النفس والسعي في رقيها في مدارج الكمال.

(فإذا زكي أحدهم) ووصف ومدح بما فيه من محامد الأوصاف ومكارم الأخلاق ومراقبة العبادات ومواظبة الطاعات (خاف مما يقال له) واشمأزّ منه (فيقول أنا أعلم بنفسي) وبعيوبها (من غيري، وربّي أعلم منّي بنفسي) وإنّما يشمئزّ ويخاف من التزكية لكون الرِّضا بها يوصل للعجب وللاسترخاء والتقصير.

ولعله لهذا السبب قال تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم/ 32)، قال في مجمع البيان: أي لا تعظّموها ولا تمدحوها بما ليس لها فإنّي أعلم بها.

ليس هذا فحسب بل يبادر المتقي بالدعاء إلى الله قائلاً: "اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنّون واغفر لي ما لا يعلمون"، فلا تؤاخذني بتزكية المزكين التي تسبب الإعجاب الموجب للسخط والمؤاخذة، واجعلني أفضل مما يظنّون في التقوى والورع، واغفر لي الهفوات والآثام التي أنت عالم بها وهي مستورة عنهم.

 

النفس والناس:

"نفسه منه في عناء والناس منه في راحة" فهي في تعب ومشقّة لمجاهدته لها ومخالفته لهواها وحمله إيّاها على ما تكره وردعه لها، كلّ ذلك لعلمه بأنّها أمّارة بالسوء وأنّها له عدوّ مبين، ولذلك كان الناس منه في راحة، لأنّ إيذاء الناس من هوى الأنفس فإذا كان قاهراً لها على خلاف هواها يكون الناس مأمونين من شرّها مستريحين من أذاها.

"أتعب نفسه لآخرته وأراح الناس من نفسه" وإتعابه لنفسه إنّما هو لأجل آخرته.

يروى عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال لبعض تلامذته: أي شيء تعلمت مني؟ قال له: يا مولاي ثمان مسائل.

قال له (ع): قصّها عليّ لأعرفها، قال: ... رأيت عداوة الناس بعضهم لبعض في دار الدنيا والحزازات التي في صدورهم، وسمعت قول الله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) (فاطر/ 6)، فاشتغلت بعداوة الشيطان عن عداوة غيره.

وهكذا هم المتقون اشتغلوا بعداوة الشيطان، وبجهاد أنفسهم عن عداوة وأذية الناس من حولهم.

 

الخلاصة:

إنّ علاقة الإنسان بنفسه ونظرته إليها يحددان مسار ومصير الإنسان، إنّ في جنات ونعيم ورضا الرب الغفار، أو في عذاب وجحيم وغضب الرب الجبار.

إنّ المراد بلوم النفس أن يعتاد الإنسان على ملاحظة نفسه في أقوالها وأعمالها وحركاتها وسكناتها ليتابعها ويراجعها حين تنحرف أو تهم بشيء من الانحراف ليعيدها إلى الصراط ويلزمها به.

إنّ من دلائل الإخلاص وعلامات المخلصين اتهامهم لأنفسهم بالتقصير في حق الله، وعدم القيام بالعبودية لمالك الملك.

ومن الوسائل العملية التي تساعد الإنسان على الشعور بالتقصير ما يلي:

1-    صحبة أصحاب الهمم.

2-    قراءة سيرة الرسول (ص).

للإنسان حياتان: باطنية وظاهرية، والظاهر للناس، أما الباطل فللّه ولصاحبه، فهو وحده من بين الخلائق يستطيع أن يتأمّل دخيلته ويعرفها، ولا سبيل إلى معرفة الآخرين بها إلا عن طريقه.

والناس في غالبيتهم يحبون الإطراء والمدح والثناء، وهذا يلبي رغبات النفس، ولكن ذلك قد يؤدي إلى إعجاب المرء بنفسه كما تقدم، ولذلك كان للمتقين موقف آخر ينسجم مع الرغبة في تهذيب النفس والسعي في رقيها في مدارج الكمال.

(فإذا زكي أحدهم) ووصف ومدح بما فيه من محامد الأوصاف ومكارم الأخلاق ومراقبة العبادات ومواظبة الطاعات (خاف مما يقال له) واشمأزّ منه (فيقول أنا أعلم بنفسي) وبعيوبها (من غيري، وربِّي أعلم منّي بنفسي) وإنّما يشمئزّ ويخاف من التزكية لكون الرّضا بها يوصل للعجب وللاسترخاء والتقصير.

المتقون هم من اشتغلوا بعداوة الشيطان، وبجهاد أنفسهم عن عداوة وأذية الناس من حولهم.►

 

المصدر: كتاب المتقون/ سلسلة الدروس الثقافية (19)

ارسال التعليق

Top