دقّت الساعة معلنة الثالثة بعد الزوال، أسرعت في ارتداء ملابسها، جمعت أوراقها، وقبّلت يد أُمّها المقعدة على الكرسي المتحرك، طالبة منها الدُّعاء لها بالتوفيق، ثمّ هبطت من الدرج، كي لا تتأخر عن موعدها، كانت تنتظر هذا العمل على أحرّ من الجمر، بعدما تردّدت على الكثير من المدارس تنشر سيرتها الشخصية، فقد يئست من تدريس الساعات الغضافية لأبناء الحي بثمن بخس لا يكفي حتى لحاجياتها.
في المقابل، كان حميد سائق سيارة الأُجرة متوقفاً في الشارع الرئيس، رأته من بعيد ففرحت بوجود سيارة أُجرة في هذا الوقت العسير الذي تقلّ فيه، فهذا هو وقت الاستراحة. اقتحمت السيارة من دون أن تستأذن: «مدرسة الأمل، شارع الأنوار، لو سمحت...».
رفع عينيه الحمراويتين، ونظر في المرآة، لم ينبس ببنت شفة، وشغّل محرك السيارة.
سناء الرحيمي، 26 سنة، حاصلة على إجازة في الأدب العربي، وشهادة ماجستير في الأدب النثري، وشواهد أُخرى في مجالات أُخرى.. وسأكون سعيدة بالعمل ضمن مجموعتكم المدرسية.
سمعها تردِّد كلماتها، نظر إليها نظرة بلهاء وغمغم في صمت، لم تتبيّن ما قاله، فقد كانت مشغولة في تكرار تقديم نفسها.
سناء الرحيمي...
كانت مُوشكة أن توقظ ذكرياته، تبسم ابتسامة نكراء، وأردف: لو كانت الدراسة مجدية، لكنت في عمل غير هذا.. عالَم أخرق، وأُناس ساذجون، لا يعرفون مصلحتهم إلّا بعد فوات الأوان. يسير ببطء كما لو أنّه يبحث عن شخص، انتبهت لسيره البطيء، أحسّت كما لو أنّها ترغب في حمل السيارة والمضيّ بها إلى العنوان المطلوب، فلا تحبّ أن تتأخر عن مواعيد كهذه، فأرباب العمل ينتظرون أيّ هفوة لرفض أيّ متقدّم، وهي التي فرحت كثيراً بعد اتصالهم بها وطلبهم مقابلتها اليوم، لإجراء مقابلة شفوية.
سناء الرحيمي...
رنّ الهاتف، أسرع في الردّ، بصوت خافض: «حاضر، لن أتأخر، جهِّزوا المكان...».
كانت التجهيزات الكبرى قد أخذت مكانها، السرير في الوسط محاطاً بالأضواء البيضاء، وبُدئ بتحضير الأدوات. أحكم إغلاق أبواب السيارة، وزاد من السرعة، وغطّى أنفه وفمه، ثمّ «تشش...».
كانت الشمس قد أشفقت وأذنت بالغروب. استيقظت من غفوتها، حينها كانت السيارة قد أخذت منحىً آخر، بيدين مكبلتين، ورأس يعج بالصداع، تحاول أن تسترجع وعيها.. رنّ الهاتف مجدّداً، بنفس النبرة: «كلّ شيء على ما يرام، قاربنا على الوصول».
استلقت المريضة على السرير، بدأ الطبيب بالتخدير، تحلّق أولادها خارج الغرفة، أولادها الذين بخلوا بالتبرّع لها بكلية تردّ عافية والدتهم، ومارس كلّ واحد منهم أنانيته، فبحثوا عن حلّ يرضيهم ويُوقف مسلسل معاناة أُمّهم مع ساعات تصفية الدم، فقد اتفق ابنها البكر مع أحد الأطباء على إيجاد متطوّع، أو بمعنى أدق ضحية يسلبانه كليته، ويجري الطبيب العملية في أحد مستودعاتهم لكي تتم في سرّية تامّة.
بعينين غائرتين محمرّتين، رمق لوحة الطريق، لم يبقَ إلّا عشرة كيلومترات. كان الطبيب قد خدّر الأُمّ، وأخذ أدواته ووضع أنبوب الأوكسجين على فمها، بيدين مرتعشتين أخذ المبضع، وبدأ العملية.. كانت سناء مازالت تحت تأثير المخدر، سلّمها السائق للممرضات وأخذ المبلغ المتفق عليه، وهَمّ بالخروج وإذ بجلبة تعلو المكان، قلق واضطراب، وصوت ينبعث: «لا يخرج أحد من هنا».
تسمّر السائق في مكانه، واضطرب الأولاد، اضطربت الممرضتان حين جحظت عينا الطبيب، وتوقفت يداه عن الحركة كأنّهما قد شُلّتا، حينما تلوّن المبضع باللون الأحمر القاتم، ورأى وجه ابنته سناء، التي تركها بعدما طلّق أُمّها قبل خمس عشرة سنة، ولم يرها من وقتها.. عمّت الفوضى المكان.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق