• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفوائد الاجتماعية للإسلام

عمار كاظم

الفوائد الاجتماعية للإسلام

المجتمع يتألف من الأفراد الذين يتعايشون على صعيد المصالح المتبادلة ويشتركون في الشعور والاتجاه الفكري والسياسي. والمجتمع السعيد هو الذي تتحكم فيه ثلاثة أصول، هي التآلف والتعاون وعدم الاعتداء. وهذه الأصول الثلاثة هي الفوائد الاجتماعية للإسلام. فهو أوّلاً يسعى لتأليف القلوب، وتكوين الوحدة الفكرية والشعور بالأخوة بين المسلمين. ولابدّ أن نعلم إنّ الصعيد المادي لا يجمع اشتات الناس فلو إنّ كلّ ما في الفضاء من نجوم وكواكب، وجميع ما على الأرض من ثروة وزينة، وما في الأرض من كنوز ومناجم ومنابع وزعت بين الناس ليكفوا عن التناحر والاشتباك لما فعلوا، لأنّ المادة هي التي تثير الجشع، وتغري إلى الصراع. ولو قسمت الأرض وكلما انبتت بين إنسانين لحنّ كلّ إلى السيطرة على نصيب الآخر، وتلاحم القتال بينهما، حتى ينتصر الأقوى عضداً أو فكراً على الأضعف. فالمادة وقود الصراع، وليست مادة التلاحم والتوفيق كما أكّد ذلك القرآن الكريم قائلاً: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم) (الأنفال/ 62-63). فليست المادة، وإنما الله وحده الذي يؤلف القلوب، حيث يبعث في جميع القلوب إيماناً واحداً ويوقظ في كافة الأدمغة فكراً واحداً ويرسل في مختلف الناس شعوراً واحداً، ويوجههم إلى سلوك مشترك ويعاقبهم على الحقد والتعادي والتنابذ، ويثيبهم على التآلف والتراحم والتواد. وإذا اندمجت اتجاهات الناس في خط واحد، وهدف واحد، ومُنعوا عن المناقضات في الطريق، لا يجدون إلا أن يتآلفوا. وفي هذا المجال لا يستطيع أي شيء أن يؤدي رسالة الدين، ولو فقد الدين أصيب الاجتماع بانشقاقات متواترة خطيرة، لا تتلاحم على الدهر، ولو انفقت ما في الأرض جميعاً. ولا شيء سوى الله، يستطيع أن يجمع الناس على الهدى، دون أن يكون متميزاً إلى فرد أو فئة. ومتى وجد مجتمع استغنى من الدين، ثمّ عاش موحداً لا تمزقه المناقضات؟ ولقد استغنت مجتمعات عن الدين، ثمّ حاولت أن تنتزع من صميمها عوامل لتجميع كلمتها، كالنِّجَار واللغة والتأريخ والوطن والمبدأ والمصير ولكنها اخفقت دون تأليف القلوب. وغاية نجاحها كان في توحيد بعض الظواهر والصيغ الجماعية، فترات مؤقتة فحسب، بينما الدين يجعل الله الهدف الأسمى للجميع ويعتبر بقية المقاصد فرعية نابعة من هذا الهدف ودائماً يشلّ في الأفراد حبّ الاستئثار وعبادة الذات حتى تجمعهم وحدة معنوية جبارةٌ، يسري مفعولها إلى الأفكار والتصورات والآمال. وغير الله جدير بتمزيق الشمل الواحد، ومطاردة أعضائه في الظلام. (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة/ 257). ويظهر في الآية لفظ (النور) مفرداً، فيما وردت كلمة الظلمات بصيغة الجمع لتدل على أنّ طريق الله نور واحد، مهما امتد وتوسع، وأما لغير الله فطرق متناقضة، وكلّها ظلمات وتناحر وتجاذب، كما تقول الآية الكريمة: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة/ 285). فالفائدة الأولى للإسلام انّه: يؤلف القلوب المتنافرة، كما لا يؤلفها شيء سواه. والفائدة الثانية: إنّ الإسلام يقيم المجتمع على العدالة والخير والحقوق والمحبة المتبادلة، والتعاون المخلص، ويحث كلّ إنسان، على أن يسدي المعونة إلى المحتاجين للمساعدة ويحترم الحقوق بلا تحيزٍ أو مداجاة ويؤدي واجباته بدقة وأمانة، ويؤكد صلاته بأرحامه وجيرانه واخوانه في العقيدة، على ما تفرضه الآيات التالية: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90). (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) (النساء/ 36). (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/ 2). ثمّ يؤكد القرآن، على أنّ الحياة كلّها خسارة فادحة، إن لم يعمرها الإيمان، والتعاون الفكري والاجتماعي، حيث يقول: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر). والفائدة الثالثة: إنّ الإسلام يخفف وطأة الاعتداءات الداخلية، وذلك لأنّ الفرد لو كانت نيته سيئة يكون شعلةٌ تُضرم محيطها، ويشقى بها كلّ من يباشرها، ولا تستطيع المحاكم والقوانين إلا محاسبة قسم من جرائمه المفضوحة، التي يعرفها القضاء، ولكن الجرائم والمؤامرات الخفية والصغيرة، تعيش بعيدة عن مؤاخذة القانون. وأمّا الإسلام، فإنّه يستطيع إلغاء النيات السود من أعماق القلوب، حتى لا يفكر النّاس في الجريمة، حيث يبلّغ الجميع إنّ الله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر/ 19). (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب/ 54). (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) (البقرة/ 284). (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36). وبأمثال هذه التصريحات، يوحي الإسلام إلى كلّ إنسان: إنّ الله يحيط بكلّ ما يدور بينه وبين نفسه، أو يصدر عنه إلى غيره، ويحصي جميع الخواطر والأعمال، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، حتى إذا حشد الناس للعرض الأكبر، وألقي إلى المجرمين صحائفهم، ووجدوا كلّ ما عملوا حاضراً، صرخوا من أعماقهم: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا) (الكهف/ 49). وحينما يحاولون التنصل من مغبتها، بالتوسل إلى الانكار: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النّور/ 24). حتى يلاقوا مصيرهم المحتوم بالخزي والعار. ومن تركزت هذه الحقائق في حياته، يتورع من التوغل في الجريمة، ولن يغمط الحقوق، ما يستسيغه الذين يقولون: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) (الجاثية/ 24). ومن آمن بالآية القائلة: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ) (فاطر/ 43). لن يتربص بالأبرياء، ولن يرسم الخطط الجهنمية الهدامة للكيد بهذا وذاك، دونما استحقاق، بل كلما سنحت له جريمة لوى عنها مستعيناً بالله. وهكذا توصل الإسلام إلى تربية الضمير، وفرض الشعور بالمسؤولية، والرقابة الداخلية على الإنسان، ولهذا أُلغيت الجريمة أيّام حكم الإسلام، حتى نسي القضاة الحدود والديات، وحتى في هذا القرن الذي ضعف فيه الإيمان بمعناه الكامل الصحيح، وفقد حرارته وتفاعله، ولم يترسب منه في القلوب سوى بقايا إيمان مترهل موروث، نرى جرائم المؤمنين أقل من جرائم الملحدين وتبدو هذه الظاهرة، في الوهلة الأولى، من المقارنة بين إحصاءات المحاكم والسجون، في البلاد الإسلامية، وإحصاءات المحاكم والسجون، في البلاد المتحضرة، التي لا تنعم بالإسلام، رغم أن تحضرها وتخلف هذه البلاد يجب أن يجعل النسبة بالعكس، ولكن معجزة الإيمان كلما ضعف وهزل فوق إرادة الحضارة مهما توسعت وتعاظمت. وليست الجرائم والانشقاقات التي نشطت في كيان الأُمّة، إلا نتاج تحللها من الإيمان، وبمقدار تحللها من الإيمان. فإشاعة كلّ معصيةٍ من المعاصي، وإهمال كلّ فريضة من الفرائض يستنتج سلسلة من العقد والمشاكل والأزمات. ومنع كلّ معصية مستباحةٍ، والتزام فريضة مهملة يغلق باباً من المآسي والمشاكل. فالفوائد الاجتماعية للإسلام تتلخص في تأليف القلوب والتعاون، وتخفيف الاعتداءات، وأخيراً في صيانة المجتمع من الانقسام والتناحر، كما بشّر به القرآن عندما قال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران/ 103).

ارسال التعليق

Top