(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 87-89).
كثير من العلاقات الاجتماعية في هذه الحياة الفانية إنّما تدور حول المال والبنون، فعند كثير من الناس إنّما مساعداتهم تناط بالمال والبنين، والله نفى ذلك في يوم القيامة على أنّ ذلك لو نفع فإنّه في الحياة الدنيا، وأمّا الحياة العقبى ويوم القيامة فإنّه لا ينفع مال ولا بنون لدفع المضرّات وجلب المنافع، فإنّهما من زينة الحياة الدنيا، فإنّ يوم القيامة يوم تبلى السرائر، وتنكشف الحقائق، ويكون بصرك يومئذٍ حديداً ونافذاً، فترى إنما ينفع الإنسان لنجاته وعلوّ درجاته، وتزحزحه عن النار ودخوله الجنّة، هو القلب السليم الذي يلقى الله وليس فيه سواه – كما ورد في الخبر الشريف – فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا مساعدة بالمال والبنين:
(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (الصافات/ 26).
والسلم والسلامة التعرّي من الآفات الظاهرة والباطنة، فلا ينفع يوم القيامة على نحو الحصر والقصر إلّا القلب السليم، فالسعيد يوم القيامة من كان له قلب سليم، والدنيا مزرعة الآخرة ومتجر أولياء الله، ففي هذه الدنيا نالوا هذا القلب المؤمن الطاهر السليم الغنيّ بغنى الله سبحانه. والذي يعمل الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى:
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) (الكهف/ 46).
فالقلب السليم الذي يأتي الله يوم القيامة الذي لم يُشرك بالله وقد زهد في الدنيا وعمل صالحاً وهجر حبّ الدنيا، فإنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة. فلا ينفع المال والبنون والأنساب يوم القيامة، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، وهو خير تحفة وهدية إلهية يمنحها الله لخاصّة أوليائه وعباده المقرّبين.
وفي حديث عن رسول الله في علامة المخلص، فهي أربعة: يسلم قلبه (من الشرك والرياء وحبّ الدنيا وأهلها وزخرفها وزبرجها)، ويسلم جوارحه (من المعاصي والذنوب وما يكون فيه آفتها) وبذل خيره وكفّ شرّه.
ثمّ العلماء ورثة الأنبياء فيرثونهم في قلوبهم السليمة:
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات/ 83-84).
عن النبي الأكرم (ص) أنّه سُئل: ما القلب السليم؟ فقال: دين بلا شكٌّ وهوىً، وعمل بلا سمعة ورياء.
قال الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى: (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ): القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه، وكلّ قلب فيه شكّ أو شرك فهو ساقط.
وقال (ع): صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم، لأنّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النيّة لله في الأمور كلها، قال الله تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
قال الإمام الباقر (ع): لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب.
فإنّ المقصود من العلوم النافعة ما يكون فيه نجاة الإنسان والدنيا، ولكن لا سلامة كسلامة القلب فهو المقصود. فإنّ من سلم قلبه فلا يصدر منه إلّا ما فيه السلام والسلامة والسلم ويكون مظهراً لاسم الله السلام.
قال أمير المؤمنين عليّ (ع): لا يصدر عن القلب السليم إلّا المعنى السليم. وهذا يدلّ على الحصر، فإنّ القلوب إذا طهرت فإنّها تكون دار العلوم والحكمة.
فإنّه قد ورد في الخبر الشريف: القلوب إذا لم تخرقها الشهوات أو يدنّسها الطمع أو يقسّيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة.
وقال (ع): لا يسلم لك قلبك حتى تحبّ للمؤمنين ما تحبّ لنفسك.
وقال (ع): أسلم القلوب ما طهر من الشبهات.
وفي غرر الحِكَم عن أمير المؤمنين عليّ (ع): إذا أراد الله بعبدٍ خيراً رزقه الله قلباً سليماً وخلقاً قويماً.
وقال (ع): إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها.
أفضل القلوب قلب حُسّي بالفهم.
وقال (ع): اعلموا أنّ الله سبحانه لم يمدح من القلوب إلّا أوعاها للحكمة، ومن الناس إلّا أسرعهم إلى الحقّ إجابةً.
فالقلب الممدوح في كتاب الله القلب السليم الذي يكون وعاءً للحكمة لم تبليه وتخرقه الشهوات المحرّمة، ولم يدنّسه الطمع أو يبطره ويقسيه النعم، وقد طهر من الشرك والكفر والشبهات، وامتلأ وحُسي بالفهم والعلم والدين والعمل الصالح، فكان حرم الله وعرشه وهو من أفضل التحف للمؤمن يوم القيامة، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم.
(جعلنا الله وإيّاكم ممّن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته).
المصدر: كتاب حقيقة القلوب في القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق