• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المحادثة غذاء الروح

خليل حنا تادرس

المحادثة غذاء الروح
◄قمت أخيراً برحلة في الأتوبيس كثيراً ما قمت بها من قبل وكالعادة، غاص كلّ راكب في مقعده.. وكأنّه دخل في صندوق خفي، وأغلق عليه غطاءه؛ وقرابة منتصف الطريق إلى وجهتي امتلأ الأتوبيس فجأة بشذا رائحة السوسن.. إذ كانت الفتاة الجالسة في المقعد الذي ورائي قد سقطت منها قنينة صغيرة وقد غير هذا الحادث الجو بأكثر من طريقة؛ لقد اعتدل الركاب في جلستهم وتلفتوا حولهم وتبادلوا الابتسامات، وسرعان ما تحدث كلّ منهم مع جاره، وقبل أن تنتهي الرحلة كنت قد دخلت مع رفيقي في المقعد في حديث، بدأ عن جيل الشباب، وتدرج حتى وصل بنا إلى الحديث عن معنى الحياة. لقد كشف الأفراد المنعزلون، عن تجربة مشتركة أسفرت مع معجزة التخاطب.

واليوم، يعيد العلماء كشف ما عرفه الحكماء منذ عهد أفلاطون – وهو أنّ التحدث إلى الناس ليس متعة فحسب؛ بل إنّه مفيد أيضاً.

ويشجع أطباء النفس التفاهم المتبادل الشافي بين الطبيب المعالج والمريض؛ بينما يشير مستشارو الزواج إلى الأحاديث التي تجري من القلب إلى القلب باعتبارها أساس السعادة الزوجية، وتقوم كلّ هذه الآراء عن التخاطب، على أساس إدراك أنّ الناس عندما يتبادلون الحديث بأمانة وإفاضة؛ ترتفع الروح الإنسانية، وتنتعش، وتحل المشكلات، وتتفتت العوائق الذهنية فتتلامس العقول، وتسمح لنفسها بأن تتأثر وتتغير.

إنّ القليلين منا هم الذين بلغ من فقرهم العاطفي حداً يجعلهم لا يتبادلون على الأقل مثل هذه المحادثات – مع زوجة، أو صديق، أو زميل.. فلماذا يبدو أنّ هذا التبادل في الأفكار يغني حياتنا؟ أعتقد أنّ السبب هو أنّ الإنسان حيوان ناقص – ولكي يكون حقيقياً مع نفسه، فإنّه في حاجة إلى أن يكون حقيقياً مع غيره، ولابدّ لعقولنا من أن تتصل بغيرها لكي تظل حية.

لقد قابلت في لندن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بوقت قصير، أحد جنود المظلات البريطانيين السابقين، وكان قد وقع في أسر الألمان، ووُضِع في حجرة خالية من النوافذ في سجن أحد المعسكرات، وقال لي: توقعت أن أفقد عقلي وأعتقد أنّني كنت سأفقده حقاً – لولا الطرقات التي بدأت تُدق ذات يوم على الجدران ؛ واكتشفت أنّها ذات إيقاع خاص – إذ كانت تُدق بالطريقة المرحة التي يتبعها سائقو السيارات الأمريكيون عندما يطلقون نفير سياراتهم في بعض الأحيان، وكأنّها تقول: حلاقة الذقن وقص الشعر بستة سنتات.

وتناوبنا الطرق؛ فيدق أحدنا الجزء الأوّل، وينتظر أن يدق الثاني الدقة المزدوجة؛ وهكذا تحطمت العزلة وعرفت أنّ في استطاعة كلّ منا مساعدة الآخر؛ وظل اتصالنا بهذا الطريقة مدة أسبوعين إلى أن أطلق سراحنا وكانت الرسالة واحدة دائماً وهي: ها أنذا وها أنت ذا.. إنّنا لسنا وحيدين.

لقد ساعدتني هذه الرسالة على مرّ السنين على فهم الاتصال البشري الحقيقي؛ فأنا أحاول أن أجد طريقة لتذكير الشخص الذي أتحدث إليه بأنّني هنا، وأنت هناك.. وإنّنا لسنا وحيدين.

لأنّ سحر الاتصال هو أنّه يجعلك تشعر بأنّه ليس هناك إنسان غريب عنك، فأنت والإنسان الآخر تلتقيان كرفيقي سفر، وتتشاطران تجارب تجعل الطريق أمامكما أقل خوفاً؛ فكيف نستطيع الاحتفاظ بهذا السحر في حياتنا؟

إنّ التخاطب كالكهرباء، يحتاج في بعض الأحيان إلى موصل؛ كان في حجرة استقبالنا أخيراً شاب خجول جدّاً؛ يجتاز وقتاً عصيباً وهو يحاول التحدث إلى فتاة لا تقل عنه خجلاً ودست زوجتي يدها في سلة أدوات الحياكة، وأخرجت قطعة من الخيط طولها قرابة متر واحد، وقالت وهي تعطي كلاً منهما أحد طرفي الخيط: هل تتكرمان بإمساك هذا من أجلي، ثمّ اختفت في الطابق العلوي، ولما نزلت إليهما بعد عشر دقائق كان الفتى والفتاة ما زالا ممسكين بطرفي الخيط وقد استغرقا كلية في الحديث.

مثل هذا التشابك ذو أثر فعّال بشكل عجيب في إشعال شرارة الكهرباء الشخصية المتدفقة من الناحيتين، وإمساك نفس الكتاب، أو عزف لحن ثنائي، أو الرقص، كلّها أنواع مختلفة لنفس الوسيلة، غير أنّ الأحاسيس تؤثر على الخيال بصورة تفيض حياة إلى حد أنّه ليس من الضروري دائماً ممارستها بصفة مباشرة، وقد لاحظت أثناء الحفلات أن تبادل وصفات ألوان الطعام اللذيذة تؤدي عادة إلى تبادل الأفكار؛ والحديث الطيب دائماً تكسبه الأحاسيس نكهة ولذة.

وأوّل قاعدة أساسية لإنشاء علاقة شخصية هي الابتعاد بالحديث عن الأمور ذات الطابع الرسمي، وتركيزه بدلاً من ذلك على الآخر باعتباره فرداً، وكلّنا يعرف أناساً معينين لديهم ما تسميه زوجتي: حساسية غير عادية حيال الناس.

والعمل مع هؤلاء مثير في دنيا الأعمال؛ ووجودهم على مائدة المفاوضات كفيل ببدء تدفق سيل من الآراء؛ وإذا قابلت أحدهم في مأدبة عشاء تألقت محادثتك معه.

إنّ سيرهم يكمن في أنّهم يتساءلون دائماً بآلاف من الطرق البارعة: ما هو إحساسك بشخصيتك؟

إنّهم يريدون معرفة ماذا تحب، وماذا يثيرك، وماذا يثير حنينك؛ ونظراً لأنّهم يهتمون فعلاً بمعرفة شعورك بشخصيتك فإنّك تُحِسُّ بأنّهم قد توصلوا إلى معرفة حقيقتك. وهذا أشبه بلمسة العصا السحرية.

وتقول الأساطير: إنّه كان من طرق التعبير عن الحديث الودي من القلب إلى القلب في عهد الملك آرثر، عبارة: لقد اكتشفت فيك نفسي.

وهي عبارة غير مألوفة؛ ولكنها معبرة.. فنحن نكتشف في المحادثات الصادقة أشياء عن أنفسنا في نفس الوقت الذي نذكرها فيه للشخص الآخر.. وكثيراً ما نتكلم بصدق أكثر مما يمكننا أن نفكر ونحن وحدنا، ونواجه حقائق لا نجرؤ على مواجهتها في خلوتنا.

وربما كان هذا هو السبب في أنّنا نلتزم في بعض الأحيان جانب السلامة بمجرد تبادل عبارات الدعابة؛ فالحقيقة أنّ الكثير من أفكارنا الخفية عن أنفسنا قد تتفكك إذا كشفناها لإنسان آخر، وإنّه لمن الغريب تمسكنا في إصرار حتى بالأفكار التي تقلل من شأن أنفسنا – إلى أن نرى مبلغ عدم ملاءمتها للطريقة التي يرانا بها شخص آخر.

ومن أسباب صعوبة احتفاظ الأزواج والزوجات باتصال طيب مستمر فيما بينهم تلك الفكرة الرومانتيكية بأنّ الحب يجب أن يمحو جميع خلافاتهم، وأن يجعلهم متفقي الأفكار والمشاعر. ونتيجة لذلك يفقد زواجهما روح الإثارة والغموض.. وعندما يحدث ذلك يكون الوقت قد حان للرجوع إلى الوراء، والسعي لا إلى الالتقاء معاً؛ بل إلى الاهتمام بالغير.

وعندما ينشأ الاتصال بين شخصين فليس من الضروري دائماً التحدث في كلّ شيء؛ ففي أوقات الضيق نتحول أنا وزوجتي إلى الموسيقى؛ وبدلاً من مناقشة موضوع ما بتبادل الجدل، فإنّنا نطفئ الأنوار، ونصغي إلى بعض الألحان الموسيقية؛ فاستماعنا معاً يجعل كلاً منا أكثر إحساساً بمزاج الآخر ومشاعره؛ وكثيراً ما نجد فيما بعد أنّ الموضوع قد اختفى ببساطة، وتنجح هذه الطريقة لأنّ نوع صمتنا الخاص يستطيع أن يصل إلى الرسالة الأساسية للتخاطب الإنساني وهي: أنا هنا وأنت هناك.. إنّا لسنا وحيدين.►

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة/ 60 طريقة لجعل حياتك أفضل

ارسال التعليق

Top