◄"المسؤولية الاجتماعية للشركات" مصطلح برز بشكل لافت للنظر في السنوات الأخيرة، وإن كان المصطلح قديماً ويطلق عليه الدول الغربية. ويدور حول فلسفة بسيطة هي أنّ الشركات يجب أن تقدّم للمجتمع الذي يتعمل فيه خدمات اجتماعية تساعد على تحسين الحياة المعيشية والاجتماعية، وتساعد على حماية بيئتها بطريقة تحافظ على مواردها.
انطلقت خلال السنوات الأخيرة مبادرات تُشجِّع على استثمار الشركات لأرباحها بطريقة مسؤولة وتحسين الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الذي تنتمي إليه، مما يدل على أنّ الوعي بأهمية المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتق المؤسسات والشركات يتنامى وفي تزايد. فلم يعد تقويم المجتمع المدني لشركات القطاع الخاص يعتمد على أرباحها السنوية، بل اعتمد تقويمها على مفاهيم جديدة ومدى تطبيقها لبرامج مستدامة تساعد الشركات على خلق بيئة عمل فاعلة وقادرة على التعامل مع التطورات المتغيرة والمتسارعة.
التطور التاريخي لمفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات:
بدأ ظهور هذا المفهوم في منتصف القرن العشرين، عندما اكتشف العالم أنّ شركات عالمية ذات أرباح هائلة، كانت تقوم بتصنيع منتجاتها في مصانع تستغل فيها العمالة البسيطة بشكل بشع في أعمال خطرة وفي بيئة غير صالحة للعمل واستغلال الأطفال في أعمال شاقة، مما يعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان وحقوق الطفل. كذلك استغلال بعض الشركات لموارد البيئة بطريقة سيئة تضرّ بها وتهدد بانقراض هذه الموارد. بالإضافة إلى الفساد الإداري والمالي لعدد من الشركات بسبب غياب الشفافية عن الموظفين والمستهلكين، مما أدى إلى موجة كبيرة من الانتقادات. وكانت النتيجة لذلك الدعوة إلى تبني ممارسات مسؤولة لهذه الشركات في أمريكا وأوروبا للحد من هذه الممارسات الخاطئة، والمطالبة بتبني برامج مستدامة تعزز التنمية وتخدم المجتمع.
إنّ تزايد الاهتمام بقضايا مهمة كالفقر وتحسين مستوى المعيشة وخلق فرص جديدة للعمل كان من أهم الأسباب التي دعت إلى الاهتمام ببرامج المسؤولية الاجتماعية للشركات. وهي قضايا مهمة ظلت لفترة طويلة من مسؤولية الحكومات وحدها؛ ولكن مع تزايد الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية المستدامة والتأكيد على أهمية أن يكون هناك دور فاعل للشركات الخاصّة ومؤسسات المجتمع المدني، وفي ضوء تأكيد الشركات أن تدهور مستوى التنمية الاجتماعية يؤدي إلى هروب رأس المال ويؤثر بالسلب على الاستثمار، زاد الاهتمام بهذا المفهوم. كذلك تتعرّض الشركات إلى ضغوط متزايدة من جمعيات النفع العام والمجتمع بصورة عامّة لتحسين أخلاقيات العمل لديها من خلال المطالبة بمزيد من العمليات والأخلاقيات في مجال العمل.
لقد عرَّف عدد من المهتمين بمجال التنمية المسؤولية الاجتماعية للشركات بأنّها نشاط تطوعي تقوم به المؤسسات والشركات للعمل بطريقة اقتصادية واجتماعية ومستدامة بيئياً لها شكل منظم داخل الشركت، يهدف إلى تبني المسؤولية عن أعمال الشركة وتشجيعها على عمل تأثير إيجابي من خلال أوجه نشاطها على البيئة المحيطة بها من مستهلكين وموظفين وجميع الأعضاء الآخرين في المجال العام داخل المجتمع الذي تمارس نشاطها فيه. وهي أيضاً برامج تنمية مستدامة تقوم بها الشركات لمصلحة المجتمع الذي تنبثق منه، التي تمارس عملها فيه، الهدف منه فقط ليس دعائياً أو تحسين سمعة الشركة فقط، بل تحسين المستوى المعيشي للمجتمع.
تعددت تعريفات المسؤولية الاجتماعية لدى المهتمين والمفكرين، فالمفاهيم تختلف باختلاف وجهات النظر في تحديد شكل هذه المسؤولية. فمفهوم المسؤولية الاجتماعية تختلف قراءته باختلاف الجهة التي تنظر إليه، فالقطاع الخاص له تفسيراته الخاصّة والمؤسسات المجتمعية لها مفاهيمها الخاصّة والأفراد داخل المجتمع كذلك لهم تعريفاتها الخاصّة، فعمليات التسويق والعلاقات العامّة والانتاج تدخل ضمن تعريف المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص، لذلك تنحاز بعض الشركات للاهتمام بجانب أكثر من جانب وفق اختصاصها وطبيعة عملها، ومؤسسات المجتمع المدني تأخذ طابع العمل الخيري والإنساني. أمّا أفراد المجتمع، فينظرون إلى المسؤولية الاجتماعية كواجب وطني، وهي دور أساسي من المواطنة يجب أن تقوم به الشركات، فهناك مَن يراها بمنزلة تذكير للشركات بمسؤولياتها وواجباتها إزاء مجتمعها الذي تنتسب إليه. ويرى آخرون أنّها صورة من صور الملاءمة الاجتماعية الواجبة على الشركات، وكلّ هذه الآراء تنفق مع مضمون هذا المفهوم.
وقد عرَّفت المنظمة العالمية للتنمية المستدامة المسؤولية الاجتماعية بأنّها "الالتزام المستمر من قبل الشركات بالتصرّف أخلاقياً والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية، والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم، والمجتمع المحلي والمجتمع ككلّ".
إنّ "المسؤولية الاجتماعية للشركات" تمّ ضبطها عالمياً بمواصفات معيارية من قبل المنظمة العالمية للمعايير أطلق عليها (ISO 26000)، التي صدرت في عام 2010م. وقبلها كانت هناك معايير أخرى عدّة، إلّا أنّ هذه المنظمة حددت هذا المعيار الشامل، الذي يغطي سبعة جوانب رئيسة في المسؤولية الاجتماعية لتكون المرجعية الواضحة للممارسات الاجتماعية المسؤولة المعتمدة، التي تستطيع الشركات الرجوع إليها، كحقوق الإنسان والممارسات العمالية وممارسات التشغيل وقضايا المستهلك وتنمية المجتمع والمحافظة على البيئة، بالإضافة إلى الشفافية.
والهدف من هذا المعيار هو توفير مرجعية دقيقة ومحددة لقياس الأثر لبرامج المسؤولية الاجتماعية، التي نفذها القطاع العام أو الخاص في المجتمع، والأثر الناجم عنها في أي جانب من الجوانب التي تخدم المجتمع، كتعزيز قيم أو تعديل سلوك أو تطوير وتحسن منتج أو رفع أداء العاملين داخل الشركات.
مزايا المسؤولية الاجتماعية للشركات:
في ظل تزايد الاهتمام بمفهوم المسؤولية الاجتماعية في العالم العربي، يتبادر إلى الأذهان التساؤل حول الأسباب التي تشجع الشركات على تطبيق المسؤولية الاجتماعية في ضوء ما تنطوي عليه من أعباء مالية كبيرة.
لقد أثبتت الدراسات أنّ الشركات التي تقدم مبادرات وبرامج في المسؤولية الاجتماعية تستطيع أن تستقطب أكفأ العناصر البشرية، حيث يمثل التزام الشركات بمسؤوليتها تجاه المجتمع الذي تعمل فيه عنصر جذب أمام الكفاءات المتميزة. كذلك تستطيع رفع قدرتها على الابتكاروالإبداع. وتستطيع الشركات أيضاً بناء علاقات قوية مع الحكومات، مما يساعد في حل المشاكل أو الخلافات القانونية التي قد تتعرض لها الشركات في أثناء ممارستها لنشاطها في المجتمع. وأثبتت المبادرات التي طبقتها الشركات أنّ الدور الاجتماعي والالتزام الأخلاقي هما أيضاً أداة من أدوات الربحية وزيادة المبيعات لدى الشركات. لذلك تحرص كبريات الشركات العالمية على تبني خطط وبرامج مستدامة لتعزيز المسؤولية الاجتماعية وتدرجها ضمن استراتيجياتها طويلة المدى، لأنّها استثمار يعود عليها بزيادة الربح والإنتاج وتحسين أداء العاملين فيها ويوطد الثقة بين الشركة وموظفيها ويعزز من انتمائهم وولائهم للشركة، ويفضي إلى تقليل النزاعات والاختلافات بين الإدارة من جهة، والموظفين والمجتمعات من جهة أخرى.
ولقد أثبتت الدراسات والاستبيانات التي تمّ تطبيقها على عدد كبير من العاملين في القطاع الخاص في إحدى كبريات الشركات الأمريكية، أنّ ما يقرب من ثلثي الموظفين يفضلون أن يشاركوا في بعض أشكال العمل الخيري أو العمل لخدمة المجتمع من خلال البرامج التي تقدّمها الشركة. أمّا المستهلكون، فإنّ ما يقرب من 90 في المائة من المستطلعة آراؤهم يفضلون شراء المنتجات والخدمات من الشركات التي تتبنى مفهوم المسؤولية الاجتماعية.
لذلك أصبح الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية مطلباً أساسياً لتحسين الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأفراد والمجتمع، من خلال التزام المؤسسات بتوفير البيئة المناسبة للموظفين العاملين بها لتحسين أداء الشركة وأداء الإنتاج، وعدم تبديد الموارد، والقيام بعمليات التوظيف والتدريب ورفع القدرات البشرية، والاهتمام بالمرأة ورفع قدراتها ومهاراتها بما يؤهلها للمشاركة في عملية التنمية المستدامة، ومساندة الفئات الأكثر احتياجاً. كذلك تساعد برامج المسؤولية الاجتماعية والالتزام بها على حسن إدارة المخاطر، التي تتمثل في الالتزام البيئي واحترام قوانين العمل وتطبيق المواصفات القياسية.
المسؤولية الاجتماعية للشركات في العالم العربي:
تعتبر الممارسات الحالية لمفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات في الوطن العربي متأخرة نوعاً ما عن الدول الغربية، وذلك لغموض مفهوم المسؤولية الاجتماعية لدى كثير من الشركات، فلا يزال يأخذ شكلاً من أشكال العمل الخيري، ولا يتماشى مع الاحتياجات الفعلية للمنطقة، ويعزى ذلك إلى الضعف السائد في معرفة ماهية المسؤولية الاجتماعية للشركات. لذلك تحتاج الدول العربية إلى الاهتمام بعقد المؤتمرات وورشات العمل لمناقشة هذه المبادرات ووضع صورة ذهنية تنظيمية لها، وأن يكون هناك دور تشريعي ينظم هذه المبادرات ليكون تأثيره أعمق في المجتمع.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق