• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الموازنة المطلوبة في حياتنا

السيد حسين الصدر

الموازنة المطلوبة في حياتنا

◄قال تعالى في سورة لقمان، آية 18: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).

الإنسان إذا ابتعد عن القيم الإلهية والتوجيهات الربّانية سيكون بعيداً عن الله – عزّ وجلّ – وإذا كان بعيداً عن الله، فالله لا يحبه، لأنّ الله يحبّ مَن يحبونه ويحبّ المطيعين له، الذي آمنوا به وأحبوه وأطاعوه واتقوه، هؤلاء الذين يحبهم الله.. أما الذي يسير في الحياة سيرة مع عدم التفات إلى التوجيهات الربّانية وإلى الأخلاق المحمّدية القرآنية ويمشي في الأرض المشية الغير متوازنة أولئك لا يحبهم الله، ويؤكّد هذا المعنى عندما يقول:

(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).

المختال هو غير المتوازن في داخله، وغير المتوازن في عمله.. لم يُرَبِّ داخله على الموازين الإلهية، لم يغَذِّ نفس بما أمر الله – عزّ وجلّ – لأنّ النفس فيها التقوى وفيها الفُجور.. كما يقول – سبحانه وتعالى – في سورة الشمس، آية 9-10:

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).

إذا زَكَّاها يكون متوازناً، وإذا أهملها ودسّاها يكون مختالاً، هذا في الداخل.. وفي الخارج، لابدّ أن يكون خارجه مطابقاً لداخله، وأن تكون الموازنة عنده دائماً بكل فكره وروحه وعمله وسلوكه.. قال تعالى في سورة القصص، آية 77:

(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ).

إذا اتّبع النص القرآن، إذا اتّبع التربية القرآنية، فلن يمشي في الأرض مرحاً وإنّما يمشي بقصد ووفق الإرادة الإلهية، يمشي وهو منصاع لله – سبحانه وتعالى – بكل حركة وسكون، بكل قول وعمل، لا يمكن أن يكون مختالاً (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، غير موازن، وغير متوازن، فلابدّ أن تكون بغيته الآخرة، ويأخذ حقه ونصيبه من الدنيا المشروعة، هذه الموازنة المطلوبة، النبي (ص) يقول: "إعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً".

إذا جعل الإثنين أمامه – (الدنيا والآخرة) – وقدّم الآخرة لأنّها دار المقر، وجعل الدنيا معبراً للآخرة، فلا يكون مختالاً.. وإن صعّر خدّه ومشى في الأرض مَرَحاً، فيكون ممن لا يحبهم الله، لأنّ الله وكما يقول في سورة لقمان، آية 18:

(لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)

فالمختال هو غير المتوازن بفكره وروحه بنفسه وعقله، وبعد ذلك في سلوكه وأخلاقه، يقول أمير المؤمنين (ع):

"ليس منا مَن تركَ آخرته لدنياه، وليس منا مَن ترك دنياه لآخرته".

فلابدّ أن يكون الاهتمام الأكبر بالآخرة لأنّها دار القرار ولأنها دار الحَيَوان (أي الحياة الباقية)، ولابدّ أن يعلم حقيقة الدنيا ولا يغترّ بها، فالله – سبحانه وتعالى – يخاطب الأُمّة، يخاطب الناس، يخاطب بني آدم في سورة الحديد، آية 20:

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ).

عندما تكون الدنيا بهذا المفهوم، تكون كما قال تعالى في سورة الحديد، آية 20:

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

هذه حقيقة الدنيا!.. إذن، فلماذا الغرور والخُيَلاء؟!.. ولماذا يكون الإنسان مختالاً؟!.. ففي الحديث:

"لو كانت الدنيا تساوي عند الله جَناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء".

فهي لا تساوي عند الله شيئاً!.. ولهذا نرى أنّ الإمام الباقر (ع) يقرِّب مفهوم العلاقة مع الدنيا للأُمّة حيث يقول:

"مثل الحريض على الدنيا، مثل دودة القزِّ، كلما ازدادت من القزِّ على نفسها لفّاً، كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غمّاً".

فلماذا التعلُّق الزائد في الدنيا؟!.. ولماذا الخُيَلاء؟!.. ولماذا المَرَح الغير إلهي؟!.. ولماذا تصعير الخدّ؟!.. والله – سبحانه وتعالى – بقوله:

(لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).

يؤكِّد أنّ المفاخرة لابدّ أن تكون بالتقوى والصلاح، وبالإيمان والعبادة، لابدّ أن تكون المفاخرة بمقدار علاقة العبد مع الله، بدرجة الصلاح والاستقامة، بالورع والتقوى:

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

في هذا لابدّ أن تكون المفاخرة، ولا تكون بالخُيَلاء والغرور، ولا تكون بأن يمشي على الأرض مَرَحاً، ولا تكون بأن يصعِّر خدّه تكبُّراً، ولا بأن يكون الإنسان مختالاً.. كلّ ذلك ليس مما يدعو للتفاخر وإنّما  كلّ ذلك لوجود نقص نفسي، لوجود آفات نفسية عند الإنسان وتظهر عنده بهذه الأساليب وبهذه الطرق!.. أما لو كان عالج نفسه وصحّح علاقته مع ربِّه والتفت إلى عبوديته، عند ذلك يعرف قَدْرَ نفسه وأنّه عَبْد لله.. فبمقدار ما فيه من عبودية، وبمقدار ما أنتجت هذه العبودية من طاعة واستقامة، فيكون مرتاحاً سعيداً مطمئنّاً بعلاقته مع ربِّه، سعيداً بعبوديته.. هذا مورد التفاخر، أما التفاخر بمال أو جاه، بثروة أو ملبس، هذه الأمور كلها زائلة لا يصح التفاخر بها، ويعطينا القرآن الكريم مثلاً للتفاخر بالقدرة والمال، فيقول تعالى في سورة الكهف، آية 32-44:

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا).

هذه مُفاخرة بين رجل ذي مال ولكنه بعيد عن الله – سبحانه وتعالى – وبين رجل فقير ولكنه مؤمن، وكيف أنّ التفاخر الذي حصَلَ من الرجل صاحب الثروة وليس له إيمان، أدّى ذلك إلى ذهاب جنّته ولم يبقَ منها شيء، لأنّ تفاخره كان بشيء مادي.. أما الإنسان الفقير المؤمن الذي يتفاخر بإيمانه وورعه وتقواه وصلاحه، فهذا ما يبقى له.. القرآن الكريم يريد من الأُمّة أن يكون تفاخرها بالورع، بالتقوى، بالصلاح والاستقامة.. يريد من الأُمّة جميعاً وخصوصاً من الشباب، لأنّ الشاب بعمره يكون أقرب إلى التفاخر وأقرب إلى الإختيال والغرور، ولهذا يؤكد القرآن على هذه النزعات النفسية الموجودة في دواخل الإنسان بصورة عامة وإلى دواخل الشباب بصورة خاصة، لنرى أنفسنا:

هل نحن ممن يحبهم الله، أو من لا يحبهم الله؟..

فهذه الآيات الكريمة هي مُحاورة بين شخصين أحدهما غنيّ كافر والآخر فقير مؤمن، وهكذا كان الأغنياء يتفاخرون على غيرهم بالمال والقدرة، ولهذا قيل بأنّ قسماً من المشركين كانوا قد اشترطوا على رسول الله (ص) أن يطرد المؤمنين الفقراء حتى يُؤمنوا به، أو يُعيّن مجلساً للفقراء ومجلساً للأغنياء حتى لا يجتمعوا عند النبي (ص) في مكان واحد، لأنّهم (الأغنياء) يزعمون أنّهم سادة وأُمراء والناس عبيد لهم وإماء.. هذا ما كانوا عليه في بداية الإسلام، والآيات الكريمة تُعطينا صورة واضحة للأغنياء المُتكبّرين في شخصِ رجلٍ غنيّ، وصورة للفقراء المؤمنين في شخصِ رجلٍ فقير لا يملك شيئاً ولكنه (هذا الفقير المؤمن) يعتزُّ بخالقهِ، أما الغنيّ، فيعتزُّ بماله.. فالذي يغترُّ بماله ويفتخر به من دون الله (وهو الغنيّ الكافر) يملك بستانين كبيرين عظيمين فيهما زرع كالحنطة والشعير، فيهما أشجار كثيرة ومتنوعة كالنخيل والأعناب، وكلّ بستان تنفجر فيه عيون المياه بأجمل منظر وألْطَفِ صورة ويؤتي ثمره ونتاجه بأحسن ما يكون وفي وقته وأوانه، حبوباً وفاكهة.. أما المؤمن الذي يعتزُّ بخالقه وإيمانه ويفتخر به، فهو لا يملك شيئاً، فقال الكافر للمؤمن في تفاخرٍ وزهوٍ وغرور:

أنا أكثرُ منك مالاً وولداً وجاهاً، أُنظر إلى ما أملك من أشجار وأنهار وزروع وثمار، هذا هو المُلْك الدائم الذي يستمر إلى الأحفاد والأولاد بخلاف الجنة التي تتصورون وجودها وتزعمون، أيُّها السُذَّج، أيُّها المساكين.. وهل بعد الموت والفناء جنان ونيران؟.. وعلى فرض وجودها، فسيكون حَظّي من الآخرة أكثر منه في الدنيا، لأنّ المُترف هنا، مُترفٌ هناك.. هذا كان تصوّر الكافر، تصوّر الذي يتفاخر بماله.. أما المؤمن، فكان جوابه للكافر زجْراً وتوبيخاً له، فقال المؤمن للكافر:

إنّك تقول هذا كُفراً بالذي سوّاك رجلاً، أنت الذي خلقك الله – سبحانه وتعالى – أما أنا فأؤمن بالله – سبحانه وتعالى – وحده لا أُشرك به أحداً وأحمده وأشكره على هدايته، ولو أنّك – أيّها الكافر – من أهل البصيرة والرُشد لآمنتَ بالله – سبحانه وتعالى – وتواضعتَ له وشكرته على نِعَمه وآلائه ولم تأخذك العزّة بالإثم.. وما إن أكملَ المؤمن كلامه مع الكافر حتى غارت الأنهار.. وسقطت الأشجار.. وهلك الزرعَ.. وذهب كل شيء في جنّة الكافر التي قد اعتزّ وتفاخر بها وقال:

"ما أظُنُّ هذه أن تَبيدَ أبداً".

وبعد أن رأى الكافر ما حصل بجنّته نتيجة تفاخره وكلّ ذلك من صُنع الله – سبحانه وتعالى – لجنّتِهِ، قال في انكسار وحسرة:

(يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا).

والعبرة من هذه الآيات الشريفة والقصد منها: يكون الإنسان مؤمناً إيماناً واقعياً، إيماناً فكرياً وعقلياً، قولاً وسلوكاً: بأن لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وأنّه القادر على كلّ شيء، وأنّ الإنسان عبد لله، مطيع له، منصاعٌ إليه.. فإذا تفاخر بشيء، فليتفاخر بعلاقته مع الله – سبحانه وتعالى – وإن اعتزّ بشيء، فليعتزّ بطاعته لله – سبحانه وتعالى – وإن افتخر بشيء، فليفتخر بأنّه عبد لله.►

 

المصدر: كتاب التواضع.. إنسانية وعبودية

ارسال التعليق

Top