• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوجه الآخر للجمال في القرآن الكريم

أسرة

الوجه الآخر للجمال في القرآن الكريم
 الملاحظ في القرآن الكريم أنّه لم يتحدّث عن الجمال كقيمة، وأنّه لم يتحدّث عنه في النساء، بل تحدّث عنه في الرجال. فهذا "يوسُف" الذي خلب لبّ (زليخا) إمرأة العزيز التي شغفها حبّاً، كان شابّاً جميلاً في منتهى الحسن والجمال حتى أنّ نسوة المدينة قطّعن أيديهنّ لمرآه وهو يطلّ عليهنّ بوجهه الملائكي الباهر الحسن. "يوسُف" نفسُه لم يلتفت إلى جماله كقيمة ليُصاب بالغرور كونه أجمل أهل الأرض جميعاً، ولم يستسلم للإغراء بوحي من أنّه محبوب ومطلوب لجماله، فلقد تحدّث القرآن عن جمالات أخرى في "يوسف".. تحدّث عن عفافه واعتصامه بحبل الله، وعن أمانته ودعوته لله وعن تأويله للرؤيا وعن قدرته في إدارة الخزينة، ليلفت انتباهنا إلى أنّ القيم الحقيقية والجمال الحقيقي الذي قد يفني الجمال الظاهري ويبقى هو هذه القيم التي لا ينبغي أن يشغلنا حسنُ يوسف أو أي جميل وجميلة عن التفكير بها.. فالحسنُ – أي حسن الخلقة – هو هبة الله لعبده ولا إرادة للعبد فيه، أمّا حُسن الخُلُق فهو صناعة الإنسان نفسه وتتويج من توفيق الله وهدايته، ولذا فإنّ الحسن الثاني أدعى إلى الإعجاب والثناء من شيء لا دخل لنا فيه إلّا بمقدار ما ندخله من بعض التحسينات الطفيفة، أي أنّ مجال الحسن الأوّل ضيّق محدود، وأمّا مجال الحسن الثاني فواسع عريض وقابل للتنمية والإثراء والتطوير. إبحث عزيزي الشاب.. إبحثي عزيزتي الشابة.. عن الوجه الآخر للجمال.. وسترون أنّ الفضائل كلّها – بلا استثناء – جميلة، وأنّ الرذائل كلّها – بلا استثناء – قبيحة، وقد نختلف في تقييم جمال فتاة أو وسامة شاب لأنّ لكلّ أمّة مقاييسها فيما هو الجمال، ولأنّ الجمال الظاهري أمر نسبي، لكنّ الأمم لا تختلف في أنّ الحبّ جمال، والعفو جمال، والعفّة جمال، والمعروف جمال، والخير جمال، والحقّ جمال، والتعاون جمال، والكرم جمال، والشجاعة جمال، والتواضع جمال، والإحسان جمال. كما أنّها لا تختلف في أنّ الكذب قبيح، وأنّ السرقة قبيحة، وأنّ الاعتداء على الشرف قبيح، وأنّ التكبر والتجبّر قبيحان، وأنّ العدوان على السلامة الخاصة والعامة قبيح، وأنّ التلاعب بالقانون ومخالفة الأنظمة قبيح، وعقوق الوالدين قبيح، والغش قبيح. ولو قمنا بجولة سريعة في بعض الأحاديث الشريفة التي تكشف لنا الوجه الآخر للجمال، لرأينا أنّ ثمة معايير للجمال مغفولٌ عنها، أو لا يعيرها الناس كثير اهتمام لأنّهم اعتادوا النظر إلى الجمال من زاوية الشكل والإطار الخارجي فحسب. فمن بين هذه الأحاديث: 1- جمال الحِلم: "جمالُ الرجل حِلمُه". 2- جمالُ الوقار: "جمال الرّجل الوقار". 3- جمال الورع: "جمالُ المؤمن ورعه". 4- جمال الطاعة: "جمال العبد الطاعة". 5- جمال اجتناب العار: "جمار الحرّ تجنّب العار". 6- جمال القناعة: "جمالُ الغني القناعة". 7- جمال التفاني: "جمال الإحسان ترك الامتنان". 8- جمال التمام: "جمال المعروف إتمامه". 9- جمال العمل: "جمال العالم عمله بعلمه". 10- جمال النشر: "جمال العلم نشره". 11- جمال العقل: "لا جمال أحسن من العقل". 12- جمال البيان: "صورة المرأة في وجهها، وصورة الرجل في منطقه". قال العبّاس للرسول (ص): "ما الجمال بالرجل يا رسول الله؟ قال: بصواب القول الحقّ". وعن علي بن أبي طالب (ع): "أحسن العقل جمال البواطن والظواهر". من هذه الباقة الجميلة من الأحاديث الشريفة يمكن أن نستخلص المقاييس التالية للجمال: 1- الجمال العبادي: وهو الذي أشارت إليه الأحاديث التي تحدّثت عن: الورع، والطاعة، واجتناب العار، والتناغم بين السر والعلن. 2- الجمال العلمي: وهو الذي ألمحت إليه الأحاديث التي تحدّثت عن: العمل بالعلم، ونشر العلم، أي أن لا يكون العلم محفوظاً في الصدور والعقول كما يحفظ المال في الصناديق المقفلة فـ"زكاة العلم أن تعلّمه من لا يعلمه". 3- الجمال الاجتماعي: وهو الذي تحدّثت عنه الأحاديث المتعلّقة بـ(الحِلم) و(الوقار) و(المعروف). وهناك لفتة مهمّة في هذا الإطار لو أخذناها بعين الاعتبار، فالله سبحانه وتعالى وهو خالق الجمال وواهب الجمال للنساء وللرجال سوف لا يُدخل أشكالنا وجمالنا الظاهري في قائمة حسابنا يوم القيامة، ففي الحديث: "إنّ الله لا ينظر يوم القيامة إلى وجوهكم وإلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم". ولو نظر إلى جمالنا الظاهري لاحتجّ الدميمون والمعوّقون والمنغوليون والمشوّهون وأصحاب العاهات، فلم ندخل في حسابنا ما لم يدخله الله في حسابنا؟! كما أنّنا حينما نقرأ الحديث الشريف "رحم الله امرأً عمل عملاً فأتمّه وأتقنه" فإنّنا نعرف أنّ تمام الشيء وإتقانه جمالٌ لا يشذّ عن ذلك عملٌ معنوياً كان أم مادّياً. فضلاً عن ذلك كلّه، فقد دعا القرآن الكريم إلى محاسن كثيرة ينبغي التنبّه إليها والأخذ بها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، كالعمل الحسن والعمل الأحسن في قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7). والأسلوب الأحسن: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34). والقول الأحسن: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت/ 33). والدين الأحسن: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ...) (النساء/ 125). والتحية الأحسن: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) (النساء/ 86). كما جاء الجمال وصفاً للأخلاق كالصبر الجميل: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) (المعارج/ 5). والصفح الجميل: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85). والسراح الجميل: (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) (الأحزاب/ 49). والهجر الجميل: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا) (المزمل/ 10). "مرّ عيسى (ع) مع حوارييه على كلب ميت أنتنت جيفته، فقال الحواريون: ما أنتن جيفة هذا الكلب! فقال عيسى (ع): ما أشدّ بياض أسنانه". لقد التفتوا إلى (القبح) والتفت عيسى (ع) إلى (الجمال). وفي المثل (الدجاجة السوداء تضع بيضاً أبيض" و"البقرة السوداء تدرّ حليباً أبيض". وقديماً قيل: ومن يك ذا فمٍ مرٍّ **** يجد مرّاً به الماء الزلالا وقال آخر: عينُ الرضا عن كلّ عيبٍ كليلة **** وعينُ السخط تبدي المساويا ألا يحدث أحياناً أن نخلع الجمال على ما نحبّ ونرضى، ونخلع القبح على ما نكره ونغضب؟ وهذه النظرة الاسقاطية لا تمثّل الجمال ولا تمثّل القبح، فالجميل يبقى جميلاً حتى وإن لم يرق لنا، والقبيح يبقى قبيحاً حتى وإن راق لنا. لنبحث إذاً عن الوجه الآخر للجمال، فهو الجمال الحقيقي المعوّل عليه، وهو الذي يجلب من السرور ما لا يجلبه الجمال الصوري. تأمّلوا معنا قول الرسول (ص): "اطلبوا حوائجكم عند حسان الوجوه، فإن قضى حاجتك قضاها بوجه طليق، وإن ردّك ردّك بوجه طليق، فربّ حسن الوجه دميمه عند طلب الحاجة، وربّ دميم الوجه حسنه عند طلب الحاجة". ألم تصادفكم في الحياة أمثال هذه الوجوه الحسنة الشكل القبيحة الفعل، أو الدميمة في الشكل الحسنة في الفعل؟ ولكن هذا لا يمنع ولا ينافي من أن يكون الفعل أحياناً مطابقاً للشكل وزيادة الخير خير وزيادة الجمال جمال.

ارسال التعليق

Top