إنّنا نمتلك الكثير ممن أن نستوحيه من ذكرى الحسين (عليه السلام)، لأنّه في معنى عقله الذي اختزن الإسلام كلّه، وفي معنى قلبه الذي انفتح على الإنسان كلّه، وفي معنى حركته التي انطلقت من أجل العدل كلّه والخير كلّه والحقّ كلّه، كان اختصاراً لمعنى الإنسان الذي عاش مع الله واستوحى عناصر شخصيته كلّها من الله، ومن خلال ذلك، نعرف أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لا يمكن أن يتجمّد في زمن، ولا يمكن أن يحاصره مكان، ولا يمكن أن تختصره حادثة، وخير شاهد هنا كلمته المدوية: «إن لم يستقم دين محمد إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني».. حيث كان المنطلق لدى الإمام الحسين (عليه السلام) هو أن ينفذ إلى واقع الأمة مجرداً عن ذاته بما هو معنى الذات في نطاقها الضيق، وإن كانت ذاته في معناها الرسالي هي الإسلام كلّه، لأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإمام المعصوم، وهو سيد شباب أهل الجنة، ولا انفصال بين واقع الذات لديه وواقع الرسالة، وقد كانت كلمته رسالة، وعمله رسالة، وإقراره للواقع الذي لا يعترض عليه ويرضاه رسالة، لأنّه عاش الرسالة في أنفاس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يتنفس بها عليه من أجل أن يعطيه الطهر كلّه في أنفاسه، وعاش روح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي كان يعمل على أن يغرسها في روحه خلال طفولته الأولى، فوجد في أحضان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حضن الإسلام الذي يضمّه، والذي يرتاح إليه، والذي عاش هدهداته كلّها ومشاعره كلّها وأحاسيسه كلّها، فعاش مع الحقّ الذي مثّله كلٌ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ (عليه السلام)، الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار».. إذاً، ليست المسألة مسألة ذات تريد أن تحكم أو تظلم أو تفسد، ولكنها ذاتٌ تريد أن تصلح وتقدم الغالي والنفيس من أجل الإحياء المتجدد لروح الإسلام والرسالة، ولذلك قال (عليه السلام): «خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي».. فكانت الثورة الاستشهادية هي بداية التغيير، من أجل أن تطلق الصرخة المدوية، المضرجة بالدماء، المنفتحة على كلِّ قيم الحقّ والعدل والعزة والكرامة والإنسانية والحياة في حركة الحاضر نحو المستقبل.. تلك هي صورة التحدي الحسيني في مواجهة الواقع المنحرف في داخل الواقع الإسلامي وتقديم الأرواح الطاهرة في سبيل إعلاء كلمة الحقّ. ولكن لابدّ أن تكون الروحية الحسينية هي التي تمثل معنى روحيتنا فقد واجه الإمام الحسين (عليه السلام) الموقف على أساس الاستمرار فيه وعدم التراجع مهما كانت الاحتمالات. وهذا ما عبّر عنه بقوله: «فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ».
دعوة مبادئ وأفكار
تلك هي صورة الحركة التي أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يطلقها في الأمة، «فمن قبلني بقبول الحق» لا من خلال علاقته بي ذاتاً، فأنا لست ذاتاً تفرض على الناس حبّها في دائرتها الخاصة، ولكني رسالة تعيش في الذات لتجعل تجسد الرسالة في حركة الذات وليست في الذات، فكأنه أراد أن يقول للناس إنكم عندما تقبلونني في دعوتي، فإنكم تقبلون دعوة الله، لأنّ الدعوة ليست دعوة الحسين الشخص، ولكنها دعوة الحسين الرسالة بما تمثله من وحي الله وكلمته. «فالله أولى بالحقّ»، فجزاء مَن يقبل دعوتي على الله، «ومن رد عليّ» ورفضني، «أصبر» صبر الأنبياء والرسل والمصلحين لا صبر التراجع، ولكني أصبر لأعطي الذين يردون عليّ والذين يعيشون تحت رواسب الجاهلية وتحت تأثير الأجواء المنحرفة التي يتقلبون فيها، صورة عن صبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قال: «اللهم أهد قومي فإنّهم لا يعلمون»، فربما يلتقون بالنور في موقع هنا أو موقع هناك، لأنّ الإنسان يمكن أن يتكامل وينمو، وإذا ضغط عليه موقع فانحرف به، فقد ينفتح له موقع آخر فيستقيم، «حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ»، فالذي بيني وبين الذين يردون عليّ ليس شيئاً في الذات، بل هو شيء في الحقّ، ولا أملك الحقّ ولا يملكونه، ولكن الله ربي وربهم هو الذي يملك الحقّ وهو الذي يحكم بالحقّ: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» (الانفطار/ 19).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق