• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

بحرُ (كورونا)

أسرة البلاغ

بحرُ (كورونا)

يقول الحقُّ سبحانه في تصوير حالة الإنسان المتردِّد بين الذِّكر والشُّكران، وبين الجحود والنسيان: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس/ 22).

وهذا مثلٌ لحالتي الإنسان في أوقات الدَّعة والرَّخاء والطمأنينة، وأوقات المحنة والأزمة والضيق والعسرة.. سفينةٌ في البحر تجري وادعةً في جوٍّ من السلام، البحر هادئ، والريحُ رَخاء، والمسافرون اطمئنانٌ وسكينة وحبور، ولا شيء يُعكِّر صَفو الرحلة فوق البساط المُخمليّ إلّا المجهول، وقلّما يُفكِّر فيه إنسان.

فجأةً، ينقلب المشهد، وتتغيَّر الصورة، فإذا السفينةُ كقشّة يتلاعب بها البحر الهائج فتبدو مترنِّحةً لاصطراع الأمواج بها وحولها، موجةٌ تصفعها، وموجةٌ ترجعها، موجةٌ تضعها، وموجةٌ ترفعها، وهي لا تلوي على شيء، فريسةَ ريحٍ غضوب، وموجٍ صخوب، وحناجرَ بلغتها القلوب التي تكاد من خوفها تذوب، فجفّ ريقها، وخبا بريقها، وتطامن حدَّ الخرس نقيقُها.

كلُّ الكوارث والمصائب والمحن والابتلاءات والشدائد والأزمات، تشبه هذا المثال، أو هي تطبيقات عملية له: قصفٌ مادي ومعنوي من جميع المحاور: عصفٌ مناخي، وعصفٌ موجي، وعصفٌ نفسي، فلا يبقى من الآمال التي يتعلَّق أو يتشبَّث بها الإنسان إلّا الحبل الممدود من السماء والذي يتدلّى على الرؤوس ليمسك به العارف بقيمته، القابض على دينه في لحظات انشداد وضراعةٍ وانقطاع إلى الله تعالى.

قام أحد علماء النفس بإجراء تجربة على ظهر سفينة كان ركّابها من مختلف الأعمار والجنسيات والجندريات والتوجهات.. اتّفق مع قبطان السفينة على الخطوات المقرَّر اتّباعها لإجراء التجربة بنجاح. قال له: «أريدك أن تعلن بمكبرة الصوت أنّ ثمة ثقباً حصل في السفينة وأنّ المساعي جارية للسيطرة عليه».

استمع ركّاب السفينة، الذين كانوا غارقين في اللهو والعبث والمباذل والمفاسد، إلى الخبر وهم يلعبون، فلم يأبهوا له طالما أنّ الأمر تحت السيطرة. بعد ساعة، عاد القبطان ليخبرهم أنّ الماء أخذ يتدفَّق إلى داخل السفينة، وأنّ محاولات الإصلاح جارية.. داخلَ بعضَهم القلق، ولم يكترث الكثيرون، ثمّ عاد بعد ساعة ليقول له بلهجة خائبة، أنّ الماء راح يتدفَّق بغزارة وأنّ الجهود المبذولة قد فشلت في السيطرة عليه.. هنا خَيَّم صمتٌ تدريجي مطبق، وخفتت أصوات الضجيج، وانكمش الركّابُ على أنفُسهم، يطوون أجنحتهم على خوفٍ مباغت تتصاعد منه روائح النهاية المخيفة.

بعضهم انهار لسماع الخبر الصاعقة.. بعضهم احتمى ببعض.. بعضهم انتحى زاويةً وراح يُصلّي ويدعو الله بأن ينجيه من الموت، ووعد بأنّه سيُصلح حاله.

بدت السفينةُ في تلك الساعة وكأنّ على رؤوس ركّابها الطير.. هدوءٌ عميق، وهمهمةٌ ضارعة، وتأفُّفاتٌ جازعة، وانتظارٌ قاتل، وترقُّبٌ مشوب بالذعر، لخبر إنقاذ السفينة من خطر داهم لم يُحسَب حسابه!

بعد ساعة، زَفَّ القبطانُ نبأ السيطرة على الخرق الذي أصاب السفينة، وأنّ عُمّال الإنقاذ الذين كانوا على الأهبة نجحوا في مهمّتهم، وأنّ كلّ شيء الآن على ما يُرام.

ما أن سمع ركّابُ السفينة الخبر السعيد حتى عادوا إلى سابق عهدهم من اللهو والعبث والطيش والغرور والانحلال والفجور! فراح بعضهم يرقص كالمخبول، وبعضهم يُصفِّق كالمهووس، وبعضهم يتبادل الأنخاب! ولم يكن فيهم من الشاكرين لله إلّا القليل!

هذه القصّة افتراضية؛ لكنّها قريبة الشبه بما يحصل لنا عندما نكون على ظهر سفينة الحياة، وتعصف بنا أمواج بحر جائحة أو كارثة ما!

ارسال التعليق

Top